صابر حسين خليل يكتب: مات مؤرخ القرية

أعلن المنادى وفاة رجل من معمرى قريتنا .. يدعى الحاج أحمد ، منذ طفولتى وهو لا يزال على هذه الصورة نحيل الجسم تكاد عظامه تظهر من تحت جلده، له شارب طويل اعتاد على تهذيبه . الحاج أحمد جاوز الثمانين لكن ذاكرته لم تخنه أبداً لم يعانى المرض طيلة حياته إلا اللمم ، قد نال قسطاً من التعليم على يد شيوخ الكُتاب، يكتب ويقرأ خطابات الغائبين ويرد عليها .

توفى الحاج أحمد وحضرت جنازته وبعد تقديم واجب العزاء ، همس لى ابنه الأكبر قائلاً : لقد ترك أبى لك شيئاً سأجلبه لمنزلك بعد مرور فترة الحداد ، تساءلت فى نفسى ما هذا الشيء الذى خصنى به الحاج أحمد بعد وفاته ؟ ولماذا أنا دون غيرى؟ مرت أيام الحداد ، وأتانى ابنه بصندوق قديم مليء بكراسات كتبت بخط الحاج أحمد ، أخذت الصندوق وتركته فى مكتبتى ، وشغلتنى أمور عديدة عنه نسيت أمر هذا الصندوق شهوراً عديدة ، حتى اقتادنى أمر كنت أبحث عنه لهذا الصندوق ، تصفحت إحدى كراساته فإذا بها مذكرات الحاج أحمد نظمها حسب سنوات عمره ، كل كراس لسنة واحدة .

أخذت أرتب كراساته حسب السنين ، حتى وصلت للسنة التى مات فيها ، مذكرات الحاج أحمد تروى ما كان يحدث فى القرية من أحداث تهم الجميع ، أرخ فيها لسنوات طفولته وشبابه وكهولته ، بدأت أطالع تلك المذكرات .

البداية قبيل منتصف القرن العشرين ، يقول الحاج أحمد فى مذكراته : اليوم قررنا السفر أنا وبعض أقرانى قررنا السفر مع عمال التراحيل ، سنسافر لأن قريتنا تعانى العدم ولا يوجد حتى الخبز فى القرية ، الجوع يأكل الجميع ، المرض ينخر أجسادنا.

وأخذ يصف حال قريته وما يعانيه أهالى القرية من فقر ومرض وجهل . هكذا كان حال قريتنا فى منتصف القرن الماضى .

أخذت أقلب الأوراق وأطالع تواريخ خطها الحاج أحمد لوفيات أهالى القرية وتأريخه لهذه الوفيات حتى جاءت خمسينات القرن العشرين ، فكتب قائلاً : اليوم بعض العصر قمنا بدفن الحالة الرابعة لهذا اليوم لأطفال أصيبوا بالحصبة ، فالوباء هذا العام جاء متخطياً ما سبق فلم يترك بيتاً إلا وانتزع أحد أطفاله وفى بيوت أخرى ينتزع اثنين أو أكثر ، انتشر العويل فى القرية ، فالحصبة هى أكثر وباء يقتل أطفالنا .

هكذا وصف الحاج أحمد فى مذكراته مرض الحصبة الذى أصاب القرية .

أخذنى الحماس وجلست أقلب أوراق الحاج أحمد سنوات وسنوات أرخ فيها لأحداث مصر الحسام ، كتب عن ثورة 1952 وكيف استقبلها أهالى القرية بالطبل والزغاريد أملاً فى أن ينصلح حالهم .وكيف انتظر الحاج أحمد قدوم من قام بالثورة لقريتهم ، ليسألنا ماذا ينقص القرية لينفذه لنا .

كتب الحاج أحمد عن النكسة وشباب القرية الذين لم يأتوا بعد انتهاء الحرب ، شباب دفن فى رمال سيناء وآخر تم أسره ولم يعد .

ثم أفرد الحديث عن انتصار أكتوبر 1973 ، وكيف عمت الأفراح ربوع القرى والنجوع .

الحاج أحمد الذى لم يغادر قريته إلا متوجهاً للحج أو للعمل . كتب عن زراعات قريته وفرحتهم بموسم جنى القطن .

تحدث عن إهمال قريته وكل القرى ، تكلم عن أقرانه ووفاتهم ، تحدث عن شيوخه حتى وصل حديثه إلى ثورة يناير، فكتب قائلاً : فى مصر المحروسة قامت ثورة أخرى تدعو إلى العدل والحرية ، تدعو إلى العدالة الاجتماعية ، فى مصر قامت الثورة فرحنا بالثورة وقفنا معها على أمل أن تتذكرنا هذه الثورة . إننا هنا فى الصعيد فى قريتنا لا نشعر بثورة نحن مازلنا نعانى الفقر والجهل والمرض ، إن اختفت الحصبة ظهر فيروس سى والفشل الكلوى ، التعليم عندنا يترنح والفقر لا يترك أحداً.

مازلنا فى قريتنا ننتظر من قام بالثورة ، ننتظره يأتى إلينا يسألنا ماذا ينقصكم حتى نكمله بعد الثورة ؟ هكذا كان الحاج أحمد ينتظر من قام بالثورة .

أخذتنى مذكرات الحاج أحمد حتى وصلت لآخر سنة من مذكرات مؤرخنا ، وجدت صفحات كُتبت وأخرى بيضاء لم تُكتب بعد ، وجدته اقتصر مذكراته على تواريخ الوفيات حتى وصلت لآخر صفحة وجدته قد كتب : من يطالع هذه الصفحة من مذكراتى يؤرخ لعام وفاتى فلم استطع كتابته ، لقد كتبت على مدار أكثر من ثمانين عاماً كل ما مر به لحظات فرحى القليلة وسنوات حزنى الطويلة ، إن معاناتى من معاناة قريتى فقد طوانا النسيان سوياً. يا من تقرأ مذكراتى اعلم أننا مازلنا ننتظر من قام بالثورة ليسألنا ماذا نريد ليفعله لنا بعد الثورة ؟ فإذا جاء ولم يجدنى فأخبروه أننى انتظرته ثمانين عاماً ، وأخبروه أن قريتنا تعانى الفقر والجهل والمرض .

وأخبره أن الحاج أحمد فرح بالثورة وغنى لها على أمل أن يأتى من قام بالثورة .



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;