دونما سبب، دعانا على الغذاء على حسابه رغم علمنا ببخله الشديد، فقبلنا بدهشة بالغة ممزوجة بقلق أشد، وهمس صديق بجوارى، ربما وراء الأكمّة ما وراءها دون أن يوضّح لنا ما الأكمّة هذه ؟!
دفعنا لمطعم " كشرى " يجاور محطة السكة الحديدية بجهته البحرية، وموقف لعربات " الكار " عن يمينه، تحيط بنا " بغال وحمير وجياد جميعها تعانى سقما ونحافة ومرضا، تحط عليها أطنان من ذباب وحشرات لم نتبيّن طبيعتها.
استوينا على طاولة مستطيلة كبيرة يحيط بها بضعة كراسى خشبية بمساند من الجلد الصناعى كالح اللون متهرئ من بعض جوانبه وآثار زيت متجلّد.
ألم تجد مطعماً أسوأ من هذا ؟!
= رد بثقة بالغة: ذاك مطعم لا يرتاده إلاّ القلة من الصفوة، وبنبرة فلسفية عميقة: لن تنسوا هذه " العزومة " ما حييتم ؟
صاحب الدعوة، مثقف من طراز رفيع، يهوى الأدب ويقرض الشعر على استحياء، يعشق القانون دراسته الأساسية، وبذوق يفتقد للأدب الرفيع، أسقط النادل بضعة أطباق متوسطة الحجم وبعينيه نظرة حذر وتوعّد، فتناثر بعضها فى وجوهنا وعلى ملابسنا، ثم وضع أطباق صغيرة للغاية تحوى " الصلصة، الشطة ".
هنا صاح الداعى: إلى الطعام أيها الأصحاب، تذكّروا الدعاء لى بطول العمر ووافر الصحة وقراءة الفاتحة على أمواتنا جميعا ورفع يديه للسماء وتمتم بحديث خافت، أجزم صديق آخر جاوره أنه كان يدعوا بسره علينا نادما على تلك الدعوة النزقة خاصة بعد أن تطلّع فزعا لقائمة الأسعار المعلّقة على الحائط بيساره.!
رداءة الطعام جعلتّنا نترفّع عنه، رغم جوعنا الشديد، عداه، نظر إلينا وقال قولة شهيرة: " أكل وبحلقة ؟!" فصمتنا صمتا بليغا، فلما رأى أيدينا عفّت الطعام وبعضنا حمد الله جهرة، انطلق هو لا يلوى على شيء فوضع الطعام " الكشرى " كومة واحدة كهرم رابع وأغرقه من أعلاه بأطباق " الشطة " قائلا: أكره " الصلصة " فلها طعم غريب وبها عطن ملفت للنظر!
ثم طعن الهرم بمعلقته، كضرب ولى السوء بمال اليتيم، أتى عليه فى دقائق وسط ذهولنا وصاحب المطعم والعاملين والمارة من حولنا، العرق ينساب من جميع مسامه، قد انتصبت شعيرات رأسه وبرقت صلعته التى تتقدم رأسه واحمّرت أذنيه واستطالت عن ذى قبل حتى خشينا أنه سينفجر كقنبلة.
تجشأ ثم حمد الله وتحسس بطنه وربت عليها بحنوّ كبير، ثم دفع الحساب وخرجنا، مشينا بضعة خطوات، همس لنفسه " ما أشد حاجتى الآن لنسمة هواء باردة وفنجان قهوة، و... لم يكمل عبارته إذ وقع مغشيا عليه، ليقضى أسابيع فى وحدة صحية نائية لإزالة أثار تسمم أصاب جهازه الهضمى، ولمّا زرناه عيادة سألنى بدهشة: من أين أتانى التسمم ؟ لقد دفعت الحساب كاملا.!!!