دائمًا ما يترنح الإنسان بين ماضيه وحاضره، فالماضى يفرض أفكاره على الحاضر، بصوره وشكله وقيمه، وكل ما فيه، فهو يخلق حالة من فرض السيطرة، فالإنسان عادة عينيه تبحث عن الماضى، فإن خشى من أمرٍ ما، يُرجع خوفه إلى حدث فى الماضى، وإن تصرف برعونة، فيكون مصدر رعونته راجعًا إلى الماضى، الذى بث فيه الشعور بأن هذا التصرف لا خطر فيه، أما الحاضر، فلا خلاف على أن جميع تصرفات الإنسان فى الماضى تنصب حول رغبته فى حماية حاضره، ومُحاصرته بسياج من الأمان.
وهكذا، الإنسان حائر دائمًا، بين الماضى والحاضر، ولا يمكنه التنصل من أى منهما، فالماضى رغم أنه أصبح ذكرى، إلا أنه ذكرى غالية الثمن، ولها قدسيتها، وهى التى تُشكل الوجدان، والكيان، والخبرة، ولولاها ما كانت تصرفات الحاضر، وكذلك الحاضر، فهو رد فعل للماضى، ونتاج له، ولكن هل نختلف على أننا أحيانًا نتعمد بحاضرنا مُخالفة ماضينا، فأحيانًا يتعمد الإنسان الإتيان بتصرفات مُعاكسة، ومُغايرة تمامًا لماضيه؛ خشية الانزلاق فى ذات الأخطاء، والغريب أننا أحيانًا نخشى من ماضى الآخرين، ونضع أنفسنا فى موضعهم؛ خوفًا من أن تكون نهايتنا كنهايتهم. للأسف الإنسان، مهما تحرر، فهو سجين ماضيه، وماضى غيره، حتى فى الماضى، فهو يظل حبيسًا لفكرة خوفه على المستقبل الذى يتحول إلى حاضر يعيشه فيما بعد، وهكذا ينقضى عُمْر الإنسان بين ذكريات الماضى التى تُسدل ستائرها على الحاضر، وبين الحاضر الذى أضاع بسببه ماضيه؛ من أجل التفكير فيه وفى حمايته.
ولكن، هل الحياة تستحق أن نُرهق أنفسنا بالتفكير فى ماضيها وحاضرها لهذه الدرجة، فيا ليت الإنسان يدرك أن ماضيه ولى، وأن حاضره سيُصبح ذكرى بعد لحظات، فما الداعى إلى قتل الأيام واللحظات والساعات، بأفكار لن تُؤتى ثمارها، فالماضى والحاضر والمستقبل، ما هم إلا أيام وُجِدْت لكى نحياها كما هى، وأفكارنا قد تُغير من الواقع، ولكن لكى يحدث هذا التغير، لابد أن نرحم أنفسنا من حالة الترنح التى تُسيطر على عقولنا، وأنفسنا، فهى كفيلة بأن تقتل أى متعة قد تحملها لنا الأيام.