أولئك الذين يعيشون الحياة وفق نظريات صارمة جامدة توارثوها ضمن بالى المورثات وقواعد ثابتة لا تقبل التغيير صاغوها باعتقاداتهم الصماء يغفلون عن حقيقة هامة؛ أن الحياة فى مجملها ليست بهذا الجمود الذى يعتقدونه، وأن لكل منا تجربته الخاصة فيها، تختلف عن غيرها، أو تتفق، تبقى فى الأخير تجربة خاصة جدا بل وشديدة التفرد والتميز مهما تشابهت مع تجارب أخرى. يغفلون أيضا عن حقيقة أن الحياة مجرد قرار نتخذه بأن نحيا وفق خياراتنا نحن أو وفق خيارات الآخرين وآرائهم، وحتى فى هذا الخيار الأخير يبقى القرار لنا فى الاستسلام للتيار والانقياد للأفكار والمعتقدات سابقة التجهيز بدلا من مقاومتها والثورة عليها.
سيطرت تلك الفكرة على حين دفعنى حادث موت الممثلة الهندية سرديفى كابور المأساوى فى دبى فى الرابع والعشرين من فبراير 2018 إلى البحث عن آخر أعمال تلك الممثلة التى علقت بذهنى كثيرا حين شاهدت لها فيلم English Vinglish والذى كان يمثل عودة قوية لها بعد فترة توقف عن التمثيل لرعاية أسرتها كما قالت كثير من وسائل الإعلام وقتها. والحقيقة أن فيلمها هذا كان شديد الجمال والنعومة، كما كان فى نظرى شديد الإيحاء والتأثير أيضا من خلال الرسالة التى يحملها وهى أنه على الإنسان ألا يتوقف عن تطوير ذاته دون أن ينسلخ عن هويته أو يدير ظهره للتطور والتحديث متشبثا بتراثه تشبثا مرضيا غير فعال.
المهم أننى حين بحثت عن آخر أفلامها ماما أو "mom" إنتاج عام 2017، عمدت إلى مشاهدته على الفور فكان أن اكتشفت كيف هو هذا الفيلم يعالج مسألة لطالما ترددت بينى وبين نفسى كثيرا فى الكتابة عنها بين إقدام على الكتابة وعزوف عنها، وهى مسألة الأم "البديلة" أو لنقل "الأم الثانية" أو بعبارة مباشرة "زوجة الأب" كما نسميها نحن فى مجتمعاتنا العربية. وعلى أية حال فقد قررت وفى لحظة شجاعة عابرة أن أكتب فى هذا الأمر فليس هناك أى اعتبار للحرية أو أهمية لها مادام المرء عاجزا تحت أى ظرف عن التعبير عن أفكاره واعتقاداته وأحاسيسه. وقبل كل ذلك أثار ذلك الفيلم بداخلى تلك الفكرة وهى أننا نحيا كل بتجربته الخاصة التى تبقى خاصة جدا مهما حدث فهى ممهورة بحامض نووى فريد لا سبيل لاختلاطه مع غيره، وأن الحياة ببساطة شديدة قرار وتصميم وكل منا يسير حيث رسم لنفسه وأراد لها.
يعرض الفيلم لمسألة الأمومة فى حد ذاتها كعاطفة ليست مرتبطة بحدث بيولوجى فى المقام الأول من حيث الحمل والولادة بقدر ما هى مرتبطة بمعانى المحبة والتسامح والصبر والعطاء التى هى عبارة عن هبات ربانية يهبها الله لمن يشاء. حيث يتناول الفيلم حياة أسرة مكونة من زوجين وابنتيهما ،كبراهما توفيت أمها وهى فى سن صغيرة فتزوج أبوها من امرأة أخرى "سرديفى كابور" اتخذت من تلك البنت ابنة لها ورزقت معها بابنة أخرى من هذا الزواج. غير أن تلك الابنة الكبرى التى تمر بمرحلة مراهقة وتقف على أولى عتبات مرحلة الشباب ترفض الاعتراف بزوجة الأب هذه كأم لها، فتعاملها على أنها دخيلة على حياتها انتزعت مكان أمها ومكانتها وبالتالى ليس لها حق التدخل ولا إبداء رأى ولا حتى المشاركة فى حوار على مائدة العشاء.
نقطة التحول فى هذا الفيلم هى حادث اعتداء تعرضت له تلك الفتاة قلب حياتها وحياة أسرتها رأسا على عقب خاصة مع ضياع حقها فى عقاب القانون لمن اعتدوا عليها بفعل تحايلهم على هذا القانون واستغلال نفوذهم، فكان أن قررت تلك الأم وبطريقتها الثأر لابنتها ومعاقبة هؤلاء الذين آذوها وكسروها وكادوا يقضون على حياتها حين حاولوا قتلها والتخلص منها ومن أى أثر لجريمتهم.
وفى مزج بين الإثارة والتشويق تستعرض أحداث الفيلم كيف قامت"ديفكي"-وهو اسم الأم- بالثأر لابنتها من هؤلاء المجرمين بصبر وتخطيط وتصميم على الحصول على ثأر ابنتها وحقها الضائع حتى لقد اعتقدت الابنة أن أباها هو وراء كل تلك الحوادث التى تقع لهؤلاء المجرمين الذين اعتدوا عليها، إلا أنها وفى النهاية تكتشف أن أمها "زوجة أبيها" هى من انتقمت لها واستعادت لها حقها وكرامتها، لتتيقن أنها ومنذ اللحظة الأولى هى الأم التى كانت تأملها وفى نفس الوقت تقاوم وجودها والاعتراف بها.
وعلى الجانب الآخر من الحياة حيث الواقع وبعيدا عن شاشات السينما ثمة أم بديلة أم ثانية رضيت مختارة أن تكمل مسيرة امرأة أخرى غيبها القدر عن حضن حياة أبنائها فقامت بمواصلة رحلتها مع هؤلاء الأبناء بمحبة ورضا وصدق وهو الأهم، تلك الأم الثانية لم تظهر فى حياة هؤلاء الصغار وأبيهم لتجتث ذكرى هذه الأم الأولى ولا لتمحو ما بقى لها من أثر وذكرى، وليست بأى حال جزءا من معادلة تجمع الاثنتين فى مقارنة أو مفاضلة بينهما.
نعيش وللأسف فى مجتمع يضع زوجة الأب فى خانة الاتهام والشك؛ الشك فى نواياها وتصرفاتها وحتى نظراتها العابرة للأشياء. ثمة تساؤلات عديدة تلقى بشأنها للأبناء للزوج لأهل هذا الزوج للجيران لكل إنسان وكل شيء أول وأبرز تلك التساؤلات هو: "كيف هى معكم؟؟". عن نفسى يؤذينى هذا لسؤال كثيرا خاصة ومع توقع السائل أن تكون الإجابة سيئة بل إن بعضهم أحيانا يتمنى لو تكون الإجابة سيئة وتحمل الكثير من الأخبار والتفاصيل المزعجة ليتمكن معها من الاسترسال فى ثرثرته ولغطه عن تلك الشريرة القاسية المجرمة "زوجة الأب"!!
مؤذ جدا هو هذا السؤال: "كيف هى معكم؟؟" حين يلغى وجود إنسان ويستعاض عنه بضمير غائب هروبا من لفظ اسمه أو جعله كيانا موجودا أو علما معروفا. ومؤذ أيضا أن يحاول البعض تحجيم دور تلك الأم فى مجرد ملئ البطون وترتيب المنزل والقيام بكل تلك الأعمال المتعلقة به بعيدا عن الأبناء.
تقول تجربتى أن الأم الثانية هى تلك التى تهب محبتها مختارة صادقة دون أن تضطر أن تعلن عنها أو تشهد عليها فى رياء وتملق، هى تلك المرأة التى تسهر قلقا على أبنائها، وتنصت فى محبة وصدق فإذا نصحت تنصح صادقة، وإذا لامت وعنفت كانت مصلحة أبنائها هى الدافع والهدف، تشاركهم جدهم ولهوهم ورسم تلك الأحلام والأمانى لمستقبلهم الذى يؤملوه. تخاطب القلوب والعقول أولا وقبل تلك البطون التى يحاولون حصر دورها عندها فقط. تؤدى دورها فى حضور الأب حينا وغيابه غالبا بدافع السفر أو العمل أو أى شيء آخر، وهى فى رحلتها تلك لا تسير على درب ممهد مفروش بالورود والمساندة الصادقة من المحيطين بها بل على العكس لربما صادفتها عقبات وعثرات طبيعية أو مفتعلة ومدبرة فقط لتفشل وتنسحب من معركة هى فى الأصل صعبة ولكنها اختارتها راضية مدركة ما كانت مقبلة عليه.
سرديفى كابور حين جسدت حياة أم لم تلد كل صغارها لكنهم فى الأخير نبت قلبها ومصدر سعادتها جسدت حياة امرأة مثلى وصلت لما وصلت إليه اليوم من ثقة ومحبة وتجاهل لأى فضول يتعلق بها أو تساؤلات تطرح عنها، بعد رحلة طويلة من الاختبارات التى خاضتها ومقاومة وجودها ودورها والتشكيك فى نواياها وتأويل معظم إن لم يكن كل تصرفاتها تأويلات مريبة وسيئة، غير أنه فى الأخير تبقى للحب الصادق والنوايا الطيبة الكلمة الأخيرة.
إلى سرديفى كابور – تلك المرأة التى أمتعتنا كثيرا - أقول: يرحمك الله رغما عن هزى أى مفتأت على رحمة الله ومتجاسر على حجب رحمته عن عباده لأسباب فى مجملها تنطوى تحت راية الطائفية المقيتة!!.