هل سبق وتحدثت مع نفسك عند رؤية أحدهم ، أو في موقفٍ ما ؟ أو أن جلست بين مجموعة أشخاص، ورددت في قرارة نفسك؛ "أنا لا أنتمي لهؤلاء مطلقًا"؟ إذا كانت إجابتك بنعم؛ إذًا فقد أقمت حواراتٍ صامة.
تلك الحوارات التي أخذتك بعيدًا عن عالمك الحقيقي؛ أخذتك لعالمٌ من خيالك أنت، ذلك العالم الذي تمنيت لو عشت فيه يومًا، أو سعدت لأنك لما تعيشه بعد، وجذبتك لطريق لم تسر فيه يومًا، أو أنك لم تنتبه إليه أبدًا، فتبدأ بإختلاق حوارات نفسية صامتة، وتختلف هذه الحوارات من موقف لآخر، بل ومن شخصٍ لآخر وفقًا لطبيعة عقليته، ونمطية حياته التي يعيشها، لكن معظمنا يتفق على إقامته لتلك الأحاديث الخفية.
والتي كان لها في القلب منزلة وفي النفس وجدانًا، وفي العقل حيزًا ومكانًا؛ شُغلت به عن واقعك، لكنك لم تنشغل فيه كليةً، وقد تعددت تلك الحوارات وأختلفت طبيعتها، فقد تجدها عبارة عن أحاديث وردية، أو مجرد تلعثمات وضغوطات نفسية غير منطوقة.
فأحيانًا نتقابل مع أشخاصٍ؛ وربما للمرة الأولى، وعلى الرغم من أنه قد لا تدور بيننا كلمات معلنة؛ فإننا قد نختلق حديثٌ معهم، فقط لمجرد أن أحدهم قد لفت إنتباهنا بطريقة أو بأخرى، ويدور الحديث معه –في صمت- تارة ما بين شد وجذب، وأخرى في كلمات متسلسة كالعقد، ونسافر معه ذهابًا وأيابًا، ونتعايش معه، وذلك كله في صمت دون تنظيم أو تحقيق لذلك على الواقع العملي، وهدفنا في ذلك كله؛ هو أن نصل لحوارٍ يرضينا أو لا يرضينا، حوارٌ يبعث في النفس نوعًا من الهدوء أو الضجيج، فقط قمنا بشيء أردناه...
وقد تقام تلك الحوارات نتيجة لمواقفنا مع أشخاص نعرفهم، وتوجب علينا في تلك المواقف قول أو فعل شيء ما، ولكننا لم ننطق ببنت شفة، ولم نفعل شيئًا أردناه، وتركنا تلك المواقف تمر أحيانًا رغمًا عنا، وأخرى رغبةً منا؛ ثم نتحدث في قرارة أنفسنا ونقول لو أننا قلنا كذا وكذا، أو أننا فعلنا كذا وكذا...وتعد تلك الكلمات التي نتحدث بها دون صوت، ولم تتعدَ حيز وجداننا؛ هي جزء من الحوارات الصامتة، التي شغلت البعض منا.
وقد يجد البعض نفسه في حالة هدوء وردي من تلك الحوارات؛ وذلك إذا كانت مجرد خطوة للوصول إلى الرضا ولو بالقليل، مدركًا بأن البطولة في هذه الدنيا هي الحفاظ على القلب نقيًا، رغم كل ما يمر به من ألم وتعب، وبأن الرضا بما يقيمه أو يتحدث به هو باب السعادة الأعظم، وهنا تصبح تلك الحوارات مرضية ولا بأس بها، لأنها تبعث على الطمأنينة في النفس، وتأخذ أصحابها لعالٌم تتناثر فيه السعادة، ويفوح عبيرها في أرجائه.
وعلى النقيض من ذلك؛ فقد تصبح تلك الحوارات عبارة عن صراعات نفسية؛ تدور حول قول لم ينطق، ومنطوق لم يقصد، أو واقٍع لا يناسب، وخيالٍ يتمناه أحدهم، ثم يتسائل في قرارة نفسه؛ لما كل ذلك؟ هل هذا أمر مقدر لنا أم جلبته علينا عواقب أفعالنا؟ أهذه حقًا الحياة التي تمنيناها يومًا، أم هي شيء يتوجب معايشته؟
ثم يدور هذا النوع من مقيمي الحوارات الصامتة في دائرة مفرغة؛ ويبدأ يعتقد بكآبة الحياة، وينظر لها على أنها كابوس مخيف لم يستيقظ منه بعد، أو طريق غير معبد يجري فيه بكل قوته، ولا يدري أين نهايته، هو فقط يرغب في الخروج، الخروج للسعادة!!، تلك السعادة التي هي في نظره أمرًا صعب المنال، وبهذه النظرة وبذلك الشكل هو في الواقع لن يصل إليها.
لأن السعادة تكمن في الرضا ، حتى لو كان الرضا بالقليل من الحوارات الصامتة، التي أعتقد أنها لو خرجت إلى حيز الوجود لأصبحت كثيرة، ولأنهت مواقف كان يتوجب أن تنتهي، أو ساعدت على ميلاد شيء ما، كان يتوجب أن يولد، ولذلك هي فقط مجرد حوارات صامتة، وستبقى صامتة بداخلنا، لأنها الأكثر صدقًا وعمقًا، لذلك أختارت من الصمت لغة لها، فلا يسمعها أو يفهمها أحد، وأعتقدها أنها الأرقى لغة، لأنها أسمى من أن تسمع أو تقرأ، ليس ضعفًا أو خذلانًا، إنما لنقائها، الذي نخشى أن تشوبه شائبة، ولذلك فهي حوارات صامتة .