اندلعت شرارة الحروب الصليبية فى أواخر صيف عام 1096م، عندما احتشد الفرسان الصليبيون استجابة للدعوة التي وجهها البابا أوربان الثاني Urban II (1088-1099م) في مجمع كليرمونت بفرنسا في نوفمبر 1095م لشن حرب صليبية ضد المسلمين في الشرق. فخرجت الحملة الصليبية الأولى والتي نجحت في تأسيس مملكة وثلاث إمارات على ثرى التراب العربي. وكانت إمارة أنطاكية هي ثاني الإمارات الصليبية التي أسسها الصليبيون في بلاد الشام، وقد تم تأسيسها على يد الأمير بوهيموند النورماني في يونيو 1098م. وقُدر لهذه الإمارة الاستمرار حتى زمن حكم السلطان المملوكي الظاهر بيبرس.
من هو الظاهر بيبرس ؟
هو بيبرس العلائي البندقداري المُلقب بالملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح الصالحي. ولد بأرض القبجاق سنة 625ه . أغار التتار على بلاده فأسر وبيع ثم حمل إلى سواث ومنها إلى حلب وأخيرا استقر به الحال في القاهرة فاشتراه الأمير علاء الدين البندقداري وبقي عنده إلى أن قبض عليه الملك الصالح نجم الدين وأخذ بيبرس ليبقى في خدمته.
كان بيبرس حسب وصف المؤرخين له أسمر البشرة ، أشهل بزرقة، تام القامة ، مليح الشكل، جهير الصوت، شجاعًا، مقدامًا، وكانت له مواقف مشهودة وبطولات عديدة. ولازالت الأقدار تساعده حتى وصل إلى كرسي السلطنة بعد مقتل السلطان قطز على يديه سنة 658ه.
بعد توليه السلطنة لم يأل الظاهر بيبرس جهدًا في القضاء على الصليبيين وتطهير الأراضي العربية منهم ، فدخل معهم في حروب طويلة وعنيفة امتازت دائمًا برجحان كفته وانتصاره على خصومه. ذلك أنه لم تنقض سنة من السنوات العشر الواقعة بين 659ه و 669ه (1261-1271م) دون أن يوجه بيبرس حملة صغيرة أو كبيرة ضد الصليبيين بالشام . ويستولي منهم على بعض المعاقل والمدن، وقد بدأت الحرب الشاملة التي شنها الظاهر بيبرس على الصليبيين سنة 663ه/1265م عندما استعاد بيبرس مدن قيسارية، ويافا، وعثليث، وأرسوف. وفي العام التالي استعاد صفد ثم هونين وتبنين ومدينة الرملة من أيدي الصليبيين.
ثم توجه بيبرس لحصار إمارة أنطاكية، وصمم على استردادها وإعادتها إلى حظيرة الدولة الإسلامية.
ولندع المؤرخ أ.د/حسين عطيه أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة طنطا وصاحب كتاب :"إمارة أنطاكية الصليبية والمسلمون" يقص علينا جانبًا من أحداث إسترداد إمارة أنطاكية من أيدي الصليبيين.
يقول المؤرخ أ.د/ حسين عطيه ".. بعد حصار بيبرس لإمارة طرابلس وتهديده لها، رحل عنها في 9 مايو 1268م/24 شعبان سنة 666ه دون أن يُطلع أحدًا من قواده على وجهته حتى يحقق عنصر المفاجأة الذي كان يحرص على الاستفادة به دائمًا. ووصل إلى حمص، ومنها إلى حماة حيث قسّم جيشه إلى ثلاثة أقسام: الأول ويقوده الأمير بدر الدين الخازندار، والثاني ويقوده الأمير عز الدين إيغان، والثالث يقوده بيبرس بنفسه، وكان هدف بيبرس من وراء تقسيم قواته هو تحقيق أمرين في وقت واحد. أولهما أن يُموّه على الصليبيين داخل أنطاكية، وعلى إمارة طرابلس فلا يتمكن الصليبيون من تحديد هدفه خاصة بعد أن توجهت قواته إلى ثلاث مناطق مختلفة. فقد توجه القسم الأول إلى الساحل حيث ميناء السويدية ثم قطع الاتصال بأنطاكية عن طريق البحر، وتوجه القسم الثاني شمالا إلى دربساك حيث تم غلق المداخل القيليقية في وجه أي مساعدة قد تأتي من جانبها. وأخيرًا توجه القسم الثالث من جيش المسلمين ويقوده بيبرس نفسه إلى أنطاكية من الجهة الجنوبية. وهكذا تم احكام الحصار حول أنطاكية وهو ثاني أهداف بيبرس من وراء تقسيم قواته.
وفي يوم الأربعاء 15 مايو 1268م/ أول رمضان سنة 666ه وصل بيبرس إلى أنطاكية، وبعد يومين كانت كل قواته تحيط بالمدينة. وخرج الكندسطبل سيمون مانسل بجماعة من عسكر أنطاكية في اتجاه قوات بيبرس، واشتبك بفرقة يقودها الأمير شمس الدين آقسنقر في قتال انتهى بأسر الكندسطبل على أيدي أحد غلمان آقسنقر، وتم احضاره بين يدي السلطان الذي كلفه بالعودة إلى أنطاكية، ليسأل أهلها الاستسلام لبيبرس الذي لم يشأ أن يهاجم المدينة قبل اعطاء الفرصة لمن فيها من الصليبيين ليسلموها بالأمان. غير أن سيمون فشل في اقناع من بداخل أنطاكية من الصليبيين بالتسليم. ولما كان يوم السبت 18 مايو / 4 رمضان بدأ بيبرس في شن الهجوم على أسوار المدينة من كل جانب، وتمكن المسلمون من تسلق الأسوار من الجهة الجنوبية بالقرب من القلعلة، وتدفقت قوات بيبرس إلى الجزء الأعلى من المدينة "دون مقاومة" على حد تعبير المؤرخين اللاتين. ولمّا لم يكن بالقلعة ما يكفي من مؤن، فقد بعث الصليبيون المحاصرون إلى بيربس يطلبون الأمان لأنفسهم في يوم الأحد 18 مايو/ 1268 م / 5 رمضان 666ه ، فأمّنهم بيبرس، وتسلم المسلمون القلعة وأسروا من فيها.
وهكذا توّج الظاهر بيبرس جهوده ضد الصليبيين باستعادة أنطاكية. وكانت خسارة الصليبيين بسقوط أنطاكية عظيمة . فهي كبرى إماراتهم بالشام وثاني إمارة أسسوها بعد الرها ، لذلك جاء سقوطها إيذانا بانهيار البناء الصليبي بالشام .