وأنا ماشية فوق أحد جسور نهر النيل بعد يوم عمل طويل، وبينما كنت مستغرقة فى التفكير أو بالأحرى خاضعة للاستبطان (التأمل الذاتى للحالات الشعورية التى يمر بها الشخص)، والذى يعد جزءًا من فطرتى، باغتنى صوت ينادى، فانتبهت لأجدها زميلة سابقة لى، كنت قد عملتُ معها فى إحدى الشركات فى بداية حياتى المهنية.
تبادلنا السلامات والتحيات المفعمة بالمشاعر الطيبة، يتخللها استعادتنا بعض المواقف التى كانت تجمعنا، فإذا بها تخبرنى أنها استقالت من الشركة مؤخرًّا وأخذت تحكى لى بشكل شبه مفصل عن قرار استقالتها، وقد تأثرت تأثرًّا بدا على، فلمسها حتى أنها قالت لى: "أزعجتك ودوشتك وطولت عليكِ". فرددت: "على الإطلاق! كل ما أتمناه أن أكون خففت عنكِ آلامك بسماعى لكِ"؛ فقد قلت فى نفسى عندما طال حديثها: " أنها جديرة بوقتى وأذنى ولو لساعة "، فقد أثارت زميلتى بحكاياتها تعاطفى، لدرجة أنستنى كل ما يشغلنى ويعكر صفوى بمعنى الكلمة.
وقد حكت لى زميلتى إلى أى مدى خضعت لأنماط من الظلم والقهر ؛ لرفض الإدارة زيادة راتبها الذى يعادل ما يقرب من رُبع قيمته المُستَحَقَّة عن أداء وظيفتها فى سوق العمل كما علمت بعدما استقالت، ومن أنماط الظلم والقهر أن مديرها المنوط به زيادة راتبها كان يقلل من دورها وطبيعة عملها بشتى الطرق، فكانت على الرغم من تأديتها وظيفة فنية، لا يصل الكتاب بدونها إلى القارئ، لا تتقاضى حقها، فكانت تعمل كالجندى المجهول بعيدًا عن الأضواء، ولا تحظى بما تستحق من مقابل مادى يعد قوام حياتها. ومن العجيب أن يقلل العاملون فى حقل النشر من قيمة من يقوم حينئذٍ بأداء هذا الدور !
لقد تبين لزميلتى أنه عند ورود زيادات أو مكافآت لكل الموظفين بالشركة، كانت الرءوس الكبيرة إداريًّا تستأثر بها وتتقاسمها، وما كان من تلك الرءوس إلا التقليل من قيمة ما تؤديه هى وأمثالها؛ لتهتز ثقتهم بأنفسهم، فيرضوا بأقل مِمَّا يستحقُّون وكذا يبدو الفساد فى أوضح صوره، وتنتشر الهزيمة النفسية للجنود المجهولة وتزداد.
أخبرتنى زميلتى بأن الإدارة لم تتوقع فكرة الاستقالة منها، ربما لأنها أظهرت لهم نجاحهم فى هزيمتها نفسيًّا، وربما لكونها مقتنعة أو شبه مقتنعة بأنها لن تحصل على وظيفة دائمة ومستقرة بسهولة.. لكن حدث أن استقالت وتركت العمل فجأة؛ لأن الكيل قد طفح واحتمالها قد نفد، والآن تلاحقها الإدارة لتسترضيها، لترجع عن استقالتها، لأن "الشغل وقع" كما أخبرها بعض الزملاء، فقلت لها لمَ لا تتفاوضين معهم وتطلبين ما يرضيكِ؟ قالت: "لا يمكن أبدًا.. كفاية أوى عشر سنين!" فسألتها: "ألستِ نادمة على قرارك؟" قالت: "أنا نادمة على استمرارى فى هذه الشركة كل هذه المدة".. وأضافت مع نظرة تأملية: "لقد كان إيمانى بالله ناقصًا؛ إذ كنت لا أتوكل عليه حق توكله، وكنت أخاف ألا أجد لقمة العيش!".
لقد تحول حالى يا قارئى العزيز بسماعى ما توصلت إليه زميلتى من خلاصة تجربتها المهنية المريرة، وانقلب شعورى من حزن وأسى إلى فرح وسعادة بها؛ لكونها استخلصت ما استخلصته، وقلت لها: "لقد أصبتِ كبد الحقيقة!".
وأردفت زميلتى: "ثم إننى أعمل الآن براتب يفوق ثلاثة أمثال راتبى هناك، وساعات عملى تعادل ثلثى ساعات عملى الماضى، وقد واتتنى فرصة العمل هذه من حيث لا أحتسب".
تذكرت بعدما ودعتُ زميلتى مديرًا رأيته بأم عينى يبخس حقوق من يعملون معه بالقطعة؛ بزعم التوفير للشركة والحفاظ على أموالها؛ تلك الشركة التى أطاحت إدارتها به فى غمضة عين ولم يبقّ منه فى الذاكرة - بالنسبة لى على الأقل- إلا أنه كان يبخس حقوق من يعملون معه.
لقد أصابت زميلتى فيما استخلصته من عبرة؛ لأنها أيقنت حقيقة يجهلها أغلبنا، فأغلبنا يحفلُ ويهتم بالمضمون وينسى المطلوب، فالرزق مضمون والسعى مطلوب، وقد ضمن الله لنا الرزق وهو القائل فى الحديث القدسى: "وضمنت لك رزقك فلا تتعب"، والمقصود بالتعب هنا انشغال القلب وحمل الهم، فإذا ضاق بالمرء مكان فليسعَ وراء غيره مِمَّا يكفل له العيش الأمن الذى يحفظ كرامته وحقوقه، ومن خلال سعيه سيتخلص من الشعور بالضعف وقلة الحيلة أو الخضوع للاستخفاف والتقليل من الشأن، بل سيزداد قوة، بها يستطيع مواجهة أى نوع من أنواع الظلم والقهر، وهذا هو المطلوب، كل ذلك مع الإيمان الكامل بأن الرزق مضمون ومكتوب فى اللوح مع الأجل.