لدى معظمنا راحل عشنا معه فترة من حياتنا بأفراحها وأتراحها ؛ ثم مالبث أن أصبح مجرد طيف يأتى فى حلم، ثم نستيقظ وندرك أنه لم يكن سوى ظل، وليس حقيقة ! وذكرى تأتى خلسة بالبسمة، أو بالدمعة التى تسقط منا على استحياء، حينما نتذكره فى جمع ، هو الضحكات وفيض من الدمعات إذا ما أختلينا بأنفسنا؛ هو القريب والصاحب، أو الحبيب، الذى رحل عنا، سواء لفراق أبدي، أو لفراق ثانوي، فمن هو راحلك؟ من الذى توقفت حروفك وعجزت أناملك عن الكتابة له؟ وجفت شفتاك عن الحديث معه بعد فيضانها ؟ هل تذكرته ؟ إذًا فهذا هو الراحل عنك، الذى لن يعود،
ويختلف الغائب من شخص لآخر، وفقًا لصفاته ودرجاته ؛ لكن المؤكد أن معظمنا أن لم يكن جميعنا قد فقد راحلًا، وأياكان من يكون راحلك، فإنه حتما واحدًا ممن تعلقت به نفسك، وشغفت لأحاديثه أذناك، وتاقت لمحاورته شفتاك، وتراجعت عن ملامسته يداك، هو الذى غاب عنك فى ظروف غامضة، نتيجة لما كلفتك به الحياة .
تلك الحياة التى دائمًا ما تأخذ مبتغاها منا؛ فقد اعتادت على تقلب أحوالها، ولا تسير بنا على وتيرة واحدة، فتارة تسعدنا، وأخرى تزعجنا، وفى وسط كل هذه التفاصيل بحلوها ومرها، بواقعيتها وخيالاتها، وبسرعتها أو حتى برتابتها ؛ نتقابل مع أشخاص ؛ هم من الشعر قافية، ومن القافية وزن، ومن الغنوة لحن، هم للشتاء وروده، وللصيف نسيمه،
إذ حينما يصبح أحدهم ذو حظوة ومكانة فى حياتنا ؛ فإنه يقترب منا خلسة، ويخطف القلب فى سنة من المحبة، ونتبادل معه أطراف حديث، ثم لاينتهى الحديث معه ؛ لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السَفِنُ ؛ وتبدأ الأوجاع، التى تأبى أن تترك المزهرية بوردوها وعبيرها، فيبدأ الجفاف صورة لها، ويتبدد أريجها ؛ حيث تندثر علاقاتنا مع من لم نتخيل يومًا أن ينضب معينها، ويصبح فى عداد الراحلين، ويتحول لمعان عينانا من الفرحة معه، إلى لمعان من الدموع عليه، وفقًا لدرجة مكانته ومحبته فى قلوبنا، فنبكى عليه، وملؤنا الأمل؛ أن يخفف هذا الرثاء عنا ما نعانيه ولو يومًا،
أما راحلتي؛ فكانت رفيقة دراستي، والتى فقدتها فى لحظات، ودون سابق إنذار، ولكننى اتذكرها دائمًا بكلمات أحيانا مسموعة، وأخرى صامتة، وتمنيت لوكانت بين الحضور لتسمعها، أو فى صف القراء لتقرأها، لكن لا شيء من هذا!! فتركت لها كلمات خالدة أبدًا ما بقى الدهر، علها تصلها بإحساس أو دعوة صادقة، حينما أرسلها أو يرسلها قاريء مع نسمات الدعاء المتصاعدة للسماء !
والتى ترجيتها بألا تتركني؛ فقد إعتدت على ذاك الصوت الذى لازلت أسمعه، وعلى تلك الضحكة وبسمة الوجة التى لازلت أراها، على تلك القسوة والصوت العالى وقت غضبها، لا زلت أشعر بصداهم فى قلبي، وكلى شوق إلى لهفتها وحنيتها وقت الصفى، ولحديثها الدافيء، وكثرة جلساتنا معًا، وطول حواراتنا حتى ولو عن اللاشيء !
وكيف كنت أصغ لهذا اللاشيء وكأنه أهم شيء، أتذكر أحاديثنا شبه المتكررة !! والتى لم يبق لى منها سوى ذكرى ؛ أنا الآن أفتقدها، ويعتصر قلبى عليها، وإنى غاية فى الشوق ومتلهفة إليها، متى سيعود كل هذا؟ لا أدري!! أتسائل كل صباح، حينما لم تعد تأتينى رسائلها، والتى تحثنى دائمًا على النهوض فى كل شيء، سواء من نومى أو من رتابتي، فكيف لى أن أصدق بأن صوتها الدافيء، الذى كان كالنغم فى أذناي، لم يعد هو أول صوت أبدأ به يومي! وكيف لى أن أتقبل غياب أسمها وصمت نغمات هاتفى وقت أستيقاظي؟ فلم تعد هى من توقظني؛ بل أصبح صوت المنبه المزعج، لا صوتها العذب الرقيق،
لا أعلم كيف وعدتنى بالبقاء، وأقسمت على ألا تغيب عنى يومًا ؛ ولكنها ذهبت دون خبر، رحلت بعيدًا، ولم تدعنى أملى منها عيناي، وتحتضنها يداي، أبهذه السهولة هنت عليها، أم إستهون بنا زماننا!! ثم تحولت من أول الناظرين إليها، إلى غريبة لا أعرف من خبرها ما يروى ظمأ قلبى، ويجفف غيث عيني، ويهديء ثورة فكرى، وبراكين وجدانى، لقد غابت خلسة، وتركت لى ألف سؤال وسؤال دون جواب !
هكذا نعيتها فى كلماتي، وهكذا كانت ذكراى إلى راحلتى التى لن تعود، والتى ربما لن تختلف عمن رحل عن معظمنا، ومن ثم لا بد وأن نخبرهم دائمًا أنا بالوصل قد عاهدناهم، وبالدعاء لن ننساهم، ونعترف بأن غيابهم قد ترك لنا رسالة تنبهنا لمن حولنا، وبأن من يحدثنا اليوم قد يغيب عنا غدًا، فرفقًا بهم متى استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وهو الرفق الذى دفعنى لتنظيم بعض الكلمات فيهم:
رفقًا بمن حولكم ..، ففى لحظات قد يرحلون
يتركونكم دون خبر..، وانتم بحالهم لاتعلمون
فى يوم لا يفيد الندم ...عليهم ستندمون
يغيبون بلا رجوع..، ومن فيض الدمع ستذرفون
ستنعوهم بكلمات وعبارات..، لمعانيها لاتدركون
سيظلون فى وجدانكم ...حاضرون وعنكم بعيدون
ربما ثانية تلتقون لكن..، يوم لاينفع مال ولابنون
فهلا بعين الرفق لهم نظرتم..، قبل أن يكونوا للابد غائبون.