أضحت الأيام متشابهة ، لا أعرف الليل من النهار، لم أعد أكترث لليوم أو التاريخ , لا أهتم لما يدور حولى ، لم يعد للقهوة رائحة ، ولم يعد للطعام مذاق لقد فقدت السمع ،و البصر رغم ان حواسى سليمة . تمر الأيام كالسنوات ، ومازلت لا أشعر بنفسى ، لم تعد قدماى تؤلمنى بشدة أثناء السير لمسافات طويلة كسابق عهدى ، وأصبح الصداع ملازماَ لى فى كل أوقاتى ،وشريكاَ لحياتي.
لم أختر اسمى ، جنسى ،عائلتى ،أو وطنى ،لم أحقق أحلامى ؛ لأنها لا تتناسب مع طموحات أهلى ،وقد فرض على طريق لم أسع يوماَ لاختياره حتى أصبحت أنتظر الموت كل دقيقة كأنه فارس سيخطفنى على جياده ؛ لكى نذهب سوياَ بعيداَ عن تلك الدنيا التى لم تعد ذى أهمية . لقد كان الماضى أكثر استشراقاَ من الحاضر،أما المستقبل فلا أثر له بعد.
قالوا -قديماَ- أن الدنيا يوم لك ، ويوم عليك ، فلا أعرف لما الدنيا دوماَ ضدى ، لا أدرى سبب بغض الدنيا لى حتى الرجل الوحيد الذى أحببته بصدق لم يكترث لحبى ،أحببته رغم يقينى بصعوبة هذا الاختيار ، ولكن القلب لديه أسبابه التى لايعرف العقل عنها شيئاَ أما صديقتى التى تعاهدنا سوياَ على البقاء فلا أعلم عنها شيئاَ منذ فترة طويلة.
لقد أذيت ذاتى فى كل مرة وافقت فيها على رأى أهلى ، وتخليت عن رأيى ، لقد دمرت ذاتى ، ولم أشفق عليها حين رأيتها تهلك فى عالم لا رجاء منه ، وأصريت على البقاء رغم كل المتاعب ، تعاملت مع ذاتى بمنتهى الحسم ، والحزم ، لم أكترث لمحاولات حدسى فى التوقف عن إيذاء نفسى ، ولم أتوقف عن ذلك الإيذاء حتى دمرتها بالكامل .
اهتزت ثقتى بنفسى ، كل الأمانى تأجلت ، وتبدلت الدنيا، استيقظت فجأة لأجد واحدة أخرى تشاركنى حياتى ، ترغب فى إصلاح ذاتى ، وقررت أن تحمى ذاتى من ذاتى ، أصرت على الوقوف ضد كل المفروض علينا ، واستطاعت التغلب على اليأس ، والهلاك الداخلى حتى أصبحت أنا الذى أرغب ، وبشدة فى اعتزال تلك الدنيا كى أجد ذاتى ، أرغب فى التخلى عن دراسة العلوم السياسية ذلك المجال الذى لم أسمع عنه إلا منذ فترة وجيزة ، وأجبرت على الالتحاق به ، أرغب فى الابتعاد عن أهلى الذين كانوا سبباَ فى ضياع أحلامى تحت مسمى " الخوف " ، وأرغب فى الهجرة عن وطنى ؛ لأنه الصخرة التى تحطمت عليها طموحاتى .
أخشى بشدة أن أستيقظ فى الستين من عمرى ، وأندم على دنيتى التى لم تشفق على يوماَ ، أخشى أن أموت بعيدة عن وطنى ، أخشى أن أكون سبباَ فى دمار أحلام أشخاص رزقت بهم لكننى قسوت عليهم بسبب " الخوف" ، أخشى أن أخسر قلبى من أجل حب لم يكن من نصيبى ، أخشى أن تدفن صديقتى قبل الوداع الأخير ، وأخشى أن أخسر أهلى مبكراَ رغم خسارتهم لى ، لا أعلم إذا كانت معارضة الأهل إثم لكنى على يقين أن الإثم الحقيقى هو ظن الأهل بامتلاك أولادهم كالأدوات المنزلية ، ويمكننا القول أنه لا تحرر لوطن أطفاله عبيد لأحلام عائلتهم .
تضاربت الأحاديث حول الدنيا ،فهل هى إجبارية أم اختيارية ، فإذا كانت إجبار لماذا يوجد عقاب ،وإذا كانت اختيار فلماذا يوجد ثواب ، نحن لم نختر زمن ،ومكان ولادتنا ، ولكن علينا أن نتعايش مع الظروف أياَ كانت ، لكن الظروف عصية على التكيف معنا .