المياه فى قلب التنمية المستدامة وهى ضرورية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية والطاقة وإنتاج الغذاء وسلامة النظم الإيكولوجية وبقاء الإنسان، كما أن المياه كذلك فى صلب عملية التكيف مع تغير المناخ، حيث تضطلع بدور الرابط بين المجتمع والبيئة والمياه، هى كذلك مسألة حقوق ففى حين يزداد تعداد سكان العالم تزداد الحاجة إلى خلق توازن بين جميع المتطلبات التجارية من موارد المياه بما يتيح للمجتمعات الحصول على كفايتها من المياه.
فى الوقت الذى أصبحت فيه مشكلة نقص المياه تهدد حياة الملايين نجد معدلات إهدار المياه أيضاً فى مصر ترتفع، وقد تؤدى إلى دخول البلاد فى حالة من العطش فبينما أعصاب المصريين مشدودة خوفا مما سيحدث فى إثيوبيا بعد بناء السد والتأثير المتوقع فى مياه النيل نجدهم لا يبالون بإهدار المياه فى الشوارع والمنازل فيتفننون فى إسراف المياه من رى الحدائق ورش الشوارع وغسل السيارات وداخل منازلهم أيضًا تجد الإسراف نفسه.
ومصر من الدول محدودة الموارد المائية فى الوقت الذى تتنامى فيه احتياجاتها المائية بصورة متسارعة نتيجة التزايد السكانى، ما أدى إلى دخولها فى حد الفقر المائى، حيث تراجع نصيب الفرد من المياه خلال الـ 200 عام الماضية، من حوالى 20 ألف متر مكعب فى السنة ليصل إلى حوالى 600 متر مكعب فى السنة، علما بأن حد الفقر المائى يبلغ حوالى 1000 متر مكعب فى السنة، وهو الحد الأدنى للفرد فى العالم.
والحقيقة أن إهدار المياه ليس فقط من المواطنين بل تشارك الحكومة بنسبة الضعف، وذلك بسبب البنية التحتية المائية الفقيرة فمواسير المياه كثير منها متهالك يحتاج إحلالا وتجديدا يتكلف مليارات الجنيهات وهذه البنية المتهالكة تتسبب وحدها فى فقد ما لا يقل عن 50% من إجمالى الفقد.
يقول تقرير للبنك الدولى أن إهدار مياه الشرب يكلف منطقة الشرق الأوسط نحو 21 مليار دولار سنويا من الخسائر الاقتصادية وأن التدابير اللازمة لتحسين إدارة وتوزيع الموارد المائية النادرة أصبحت أمرا حيويًا لنمو المنطقة واستقرارها ويضرب التقرير الصادر بعنوان "ما بعد الندرة : الأمن المائى فى الشرق الأوسط وشمال أفریقیا" أمثلة إقليمية وعالمیة لإثبات أنه يجب ألا تؤثر محدودية الموارد المائیة على مستقبل المنطقة بل يمكن حتى استخدام مزيج من التكنولوجيا والسیاسات والإدارة لتحويل تلك الندرة إلی مستوى أمن، ويضيف التقرير أن أكثر من 60% من سكان دول المنطقة فى مناطق إجهاد مائى مرتفع أو مرتفع للغاية مقارنة بالمتوسط العالمى الذى يصل إلى نحو 35%، ورغم ندرة المياه فإن دول المنطقة لديها أدنى تعريفة للمياه فى العالم وأعلى نسبة من دعم المياه إلى الناتج المحلى الإجمالى عند 2%.
استهلاك معدل مياه الشرب فى مصر هو الأعلى فى العالم فنحن نستهلك ما بين 11 و11.5 مليار متر مكعب سنويا للأسف الشديد يضيع أكثر من نصفها فى الشبكات المتهالكة والنصف الباقى أى نحو 3 مليارات متر مكعب يضيع من خلال التعامل غير المرشد من قبل المواطنين إما من خلال عدم التعاون الجاد من شركات المياه ضد من يهدر المياه أو من خلال الوصلات غير القانونية واستخدام مياه الشرب فى عمليات الرى فى الأراضى والحدائق.
النشرة السنوية لـ"إحصاءات مياه الشرب والصرف الصحى لعام 2015/2016 كشفت عن كارثة إهدار المياه النقية فى كافة المحافظات حيث بلغت نسبة الفاقد من مياه الشرب خلال العام المشار إليه 29.7% على مستوى الجمهورية من إجمالى الكمية المنتجة البالغة 9.3 مليار متر مكعب، واحتلت محافظات "بورسعيد والسويس ومطروح" أعلى النسب فى إهدار المياه، حيث فقدت محافظة بورسعيد خلال عام 2015/2016 نحو 57.7% من إجمالى المياه المنتجة والبالغ كميتها 9.7 مليون متر مكعب، فى حين بلغت نسبة الفاقد من المياه فى محافظة السويس 57.4% من إجمالى الكمية المنتجة البالغة 18.8 مليون متر مكعب.
فاقد مواسير المياه وفاقد مياه غير محاسب عليها وانفجار المواسير وحنفيات الحريق كل ذلك يدخل فى الفاقد ونسبة الفاقد فى مصر 30% والأرقام العالمية نسبة الفاقد من 10 إلى 15% ويمكن النزول إلى تلك النسبة إذا تم الاهتمام بالبنية التحتية فنحن لدينا شبكات تفوق الـ 30 سنة وتحتاج إلى إحلال وتجديد وهى تحتاج إلى نحو 8 مليارات جنيه وهى تمثل من 20 إلى 30% من إجمالى أطوال الشبكات.
ينبغى علينا أولا أن نعيد هيكلة السياسة المائية فى مصر فالسياسة المائية حاليا تسير بالمسكنات فما لا يعرفه كثيرون أن نهر النيل لدينا نهر مغلق أى أنه يستقبل مياه نهر النيل ومياه الصرف الزراعى والصحى والصناعى وهذه المكونات تحدث وفرة مائية تكفى لاحتياجاتنا المائية حتى الآن فالميزانية المائية حاليا 80.5% مليار متر مكعب فى حين أن الإيراد المائى 5.5 مليار متر مكعب وذلك على حساب ارتفاع ملوثات المياه وملوحة المياه وكلاهما يؤثر تأثيرا مباشرا على الصحة العامة للمواطنين وعلى الانتاج الزراعى فملوثات المياه تأتى من الصرف الصحى والصناعى وملوحة المياه من الصرف الزراعى والتربة الزراعية لان مياه الصرف دائما تكون أعلى ملوحة من مياه الرى.
والمشكلة أيضا فى المياه المتسربة أنها ترفع منسوب المياه الجوفية وتؤدى إلى تدهور المناطق المنخفضة ومعظمها تكون فى المناطق الأثرية أو إحداث هبوط فى الطرق بعد إنشائها ومن هنا ترتفع مناسيب المياه نتيجة هذا التسرب ومع التناقص المحتمل فى المياه الواردة من إثيوبيا سوف ترتفع نسبة الملوثات الناتجة عن الصرف الصناعى والصحى وبالتالى ستحدث أضرار كارثية بالنسبة للشعب المصرى تؤدى إلى تدهور الصحة العامة وتدهور المزروعات والمأكولات ويؤدى عدم التخلص منها إلى كارثة.
تعد المياه الجوفية أحد الموارد المائية غير التقليدية التى تتميز بانتشارها جغرافيًا فى مصر وبصفة رئيسية فى ٤ مناطق هى: وادى النيل والدلتا، والصحراء الغربية، والصحراء الشرقية، وشبه جزيرة سيناء، استخدام المياه الجوفية حاليا بات مخططا له من قبل وزارة الرى التى وجدت أنه لابد من وجود قوانين منظمة للاستخدام حتى لا يتم إهدارها وهذا يتطلب بالضرورة اتباع الوسائل الحديثة فى الرى للحد من استخدام هذه المياه على اعتبار أنها ثروة حقيقية لا يجب بأى حال من الأحوال ضياعها فهى تعد ثروة مصر الحقيقية.
إن مشاكل نقص وتلوّث المياه ليست من مسؤولية مصالح المياه أو الوزارات والإدارات المختصة فقط، بل لا بدّ من مشاركة جميع المواطنين فى علاج هذه المشاكل وذلك عن طريق اكتساب "وعى مائى" وتنمية الاتجاهات والسلوكيات السليمة لدى المواطنين فى تعاملهم مع الموارد المائية بهدف ترشيد استهلاك المياه واستغلالها بشكل أفضل.
المهم الآن هو تكثيف نشر التوعية بأهمية ترشيد استهلاك مستمر بهدف ضرورة الترشيد من أجل المحافظة على هذه الثروة الوطنية المهمة وعلى وسائل الإعلام المختلفة القيام بإعداد برامج توعية فى التلفزيون والإذاعة والصحافة المحلية وبطريقة مشوقة وطريقة تحث المواطن على ضرورة الحفاظ على المياه التى تعتبر ثروة توجب المحافظة عليها من الضياع والهدر كما يجب مخاطبة الناس فى هذا الشأن بحسب مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، ولابد أن يكون هناك حرص على استهلاك المياه وعدم هدرها.
لقد حان الوقت لتبنّى "ثقافة مائية" أكثر تقشفاً للحفاظ على الثروة الكبرى التى تشكّلها المياه فى مصر واستثمارها بطريقة فعّالة مع التنويه بأن حاجات المواطنين من المياه قد تصل إلى مرحلة لا تعود خلالها الموارد المائية قادرة على تلبية الطلب المتزايد فى حال لم يتمّ اعتماد ثقافة استهلاك مائية مسئولة ومتطورة والأمر المشجّع هو أن ترشيد استخدام المياه لا يتطلب إمكانيات اقتصادية أو فنية كبيرة وهو فى متناول يد كل مواطن.