عادةً، الإنسان يستخدم قدراته فى حل المشاكل الفردية، أى المشاكل التى يكون هو الأول والأخير فيها، وصاحب الكلمة العُليا والقرار بشأنها؛ لأنه يشعر أن قراره لن يُراجعه فيه أحد، وهذا الشعور يخلق بداخله حالة من الطُّمَأْنينة وراحة البال، مهما بلغت جسامة الأزمة أو المشكلة، فى حين أن الأمر يختلف على إطلاقه فى حالة وجود طرف أو أطراف أخرى، لاسيما لو كانوا أعداء، فهنا يشعر بأن أزمته تحولت إلى مُعْضِلة بلا حل؛ لأن هناك أشخاص آخرين، يُفكرون، ويُدبرون، ويتخذون قرارات، قد تكون ضده، ولكن للأسف، هذا التفكير فى الغالب الأعم، يكون سلبيًا ومخالفًا للواقع؛ لأن الإنسان باستطاعته أن يُفكر ويتكهن أفكار الآخرين، ويتوقع أفعالهم، وهنا لابد أن يكون جاهزًا بردود أفعاله؛ للتصدى لما يبدر من الأطراف الأخرى.
والحقيقة أن هذا ليس رأيى أنا فقط، ولكنه السلوك الذى انتهجه السابقون والسالفون من العرب، ومنهم "كُلثوم بن الأغرّ"، وكان معروفًا بدهائه وذكائه، فقد كان قائدًا فى جيش "عبد الملك بن مروان"، وكان "الحَجَّاج بن يوسف" يبغض "كُلثوم"، فدبر له مكيدة، جعلت "عبد الملك بن مروان" يحكم على "كُلثوم بن الأغرّ" بالإعدام بالسيف، فذهبت "أم كُلثوم" إلى "عبد الملك بن مروان" تلتمس عفوه، فاستحى منها؛ لأن عُمْرها جاوز المائة عام، فقال لها: "سأجعل الحَجَّاج يكتب فى ورقتين، الأولى يُعْدَم، وفى الورقة الثانية لا يُعْدَم، ونجعل ابنكِ يختار ورقة قبل تنفيذ الحكم ، فإن كان مظلومًا نجاه الله" ، فخرجت ، والحزن يعتريها ، فهى تعلم أن "الحَجَّاج" يكره ابنها، والأرجح أنه سيكتب فى الورقتين "يُعْدَم" ، فقال لها ابنها : "لا تقلقى يا أماه ، ودعى الأولى". وفعلاً، قام "الحّجَّاج" بكتابة كلمة "يُعْدَم" فى الورقتين، وتجمَّع الملأ فى اليوم الموعود، ليروا ما سيفعل "كُلثوم"، ولما حضر "كُلثوم" فى ساحة القصاص ، قال له "الحّجَّاج"، وهو يبتسم بخبث : "اخْتَرْ واحدة" ، فابتسم "كُلثوم"، واختار ورقة، وقال: "اخترتُ هذه"، ثم قام ببلعها ، دون أن يقرأها، فاندهش الوالى ، وقال: "ما صنعت يا كُلثوم، لقد أكلت الورقة دون أن تعلم ما بها!"، فقال "كُلثوم": "يا مولاي، اخترت ورقة، وأكلتها دون أن أعلم ما بها ولكى نعلم ما بها، انظر للورقة الأخرى، فهى عكسها"، فنظر الوالى للورقة الباقية، فكانت "يُعْدَم"، فقالوا: "لقد اختار كُلثوم ألا يُعْدَم".
فما حدث ، ليس مجرد صدفة أو ذكاء خارق ، ولكنه فى الواقع إصرار على عدم الفشل ، وعدم إتاحة الفرصة للآخرين ، بأن يُسبغوا على قراراتهم صفة النفاذ ، حتى لو كانت بدون وجه حق ، فالواقع أننا من نختار أنُ نُعْدَم أو لا نُعْدَم ، فعندما نيأس ونترك الساحة لأعدائنا، لكى يقهرونا، فيكون قرار الإعدام قد صدر من داخلنا، وتم تنفيذه بأيدى أعدائنا، وعندما نتحدى ونتصدى، حتى لضعفنا وهزيمتنا أمام أنفسنا، فهنا نكون قد اخترنا ألا نُعْدَم، ولا تنسوا أن الضعف والهزيمة، هما العدو الأول لنا، فالآخرين، مهما بلغت أسلحتهم، فهى بلا ريب، ستقف عاجزة أمام سلاحى الإرادة والإصرار، الكامِنَيْن بداخلنا، والآن، عليك أن تختار إحدى الورقتين فى كل أزمات حياتك.