فى حياة المرء منا أحداث كثيرة تؤثر بالسلب أو الإيجاب، وهناك أحداثاً تقلب الحياة رأساً على عقب.
وبطلنا اليوم مر بحدثٍ نقل حياته من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.
كان طفلاً صغيراً فى الصف الثانى الابتدائى فى مدرسة صغيرة فى إحدى قرى محافظة قنا.
ذلك الطفل لا يعى من دنياه الكثير يلعب مع أقرانه فى الحقول وفى موعد المدرسة يذهبون سويا ليتكدسوا فى فصولها.
كان كأصحابه غير عابئين بالدروس والمدرسة لا يحفظ من دروسه شيئاً كان بليداً والبلادة لا تمثل نقصاً بين أقرانه، فكلهم ناله من هذه البلادة قسطاً، ومن نجا من تلك البلادة يعد استثناء ً للقاعدة.
فى يوم من أيام دراسته أخبرته والدته بأنهم سوف ينزحون للقاهرة للعيش هناك، لم يكن سنه الصغير يدرك معنى الحياة فى القاهرة، فى نهاية العام ترك القرية وذهبوا للقاهرة.
القطار يشق طريقه وسط الزراعات معلناً قدوم ذلك الطفل للقاهرة ومغادرته للصعيد. عينى الصغير تحاولان التشبث بمنظر الحقول لكن سرعة القطار حالت دون ذلك.
ساعات تمر ما بين محاربته للنعاس حتى لا تفوته المناظر التى يمر بها القطار وبين غلبة النعاس له.
وصل القاهرة، وجد الصغير أناساً غيره يتكلمون لكنة غير لكنته، ويلبسون غير ما اعتاد عليه، شهور مضت شعر بغربته وبعده عن أصدقائه، حاول الاندماج وسط أصدقاء جدد لكن اللهجة الصعيدية كانت مسار تهكمهم، فيعود لانطوائه ثانية.
جاء العام الدراسى الجديد، عامه الأول بالقاهرة، وكانت سنته الأولى هى السنة الأولى لمدرسة جديدة، بدأ سوياً.
دخل فصله بحث بين التلاميذ لعله يعثر على أصدقاءه القدامى، بحث دون جدوى، الوجوه مختلفة، المقاعد مختلفة حتى الحوائط مختلفة.
دخل المدرس وكان شاباً فى العشرينات من عمره أنيق فى ملبسه، لبق فى كلامه، عرف نفسه لتلاميذه اسمه الأستاذ عباس، بدأ يشرح أول دروس العام، تحدث عن العلم وعن أهميته للإنسان حدثهم عن المستقبل، هكذا كان الأستاذ عباس.
أنصت بطلنا القادم من الصعيد لكلام الأستاذ عباس شعر أنه مختلف عن كل ما رآهم من مدرسين فى قريته.
أخلص الأستاذ عباس فى تعليم التلاميذ، بدأ مستواهم يتحسن شيئاً فشيئاً أثمرت جهوده، وقد أحب بطلنا التلميذ الصغير أستاذه وبدأ يذاكر لينال رضاه. عرف القراءة والكتابة أحس بلذة العلم، تقدم وسط الصفوف حتى أجلسه أستاذه فى أول مقعد لنباهته. شعر تلميذنا باهتمام أستاذه فذاكر أكثر وأكثر.
قدمه فى الإذاعة، فى المسابقات، تحول بطلنا ليكون الأول فى كل شيء.
مرت سنوات الابتدائية سريعاً حتى جاء يوم نتيجة الامتحان أضحى تلميذنا أول الطلاب وطوال عمره أضحى أول الطلاب.
هكذا يصنع المعلم الفارق بين البلادة والذكاء، بين الكسل والنشاط، عندما يخلص الأستاذ يحصد غرسه فى تلميذه، يحصد النباهة والعلم.
أين معلم اليوم من الأمس، هل فقد تأثيره على تلاميذه ؟ هل المادة طغت على كل شىء؟
المعلم هو مشعل لهذه الأمة، المعلم هو أساس نهضتنا، لماذا تخلى المعلم عن دوره فى رفعة هذا البلد ؟.
نحن نحتاج إلى الكثير لنرقى بمصر، وأول ما نحتاج إليه معلم يخرج لنا أجيالاً ترفع شأن أمتنا.
لقد أصبح تلميذنا القادم من الصعيد علماً من أعلام التنوير فى هذه البلد، أصبح نافعاً للمجتمع. بفضل الأستاذ عباس ودرسه الأول خرج مجموعة من التلاميذ هم الآن يساعدون بلدهم للنهوض وعلى رأسهم بطلنا التلميذ الصغير.
فى النهاية أود أن أتقدم بالشكر للأستاذ عباس ودرسه الأول. شكراً أستاذ عباس.