لم ارتبط يوما بهاتف معين، لم أبحث عن أعلى ما وصلت إليه التكنولوجيا فى صناعة الهواتف ، لم تتحرك شهيتى يوما لاقتناء هاتفاً ذكياً لعل ذلك يرجع إلى الاكتفاء بأجهزة الكمبيوتر منذ بداية التسعينيات من القرن المنصرم ، كل ما كنت أبحث عنه فى هاتفى اتصال بمكالمة واستقبال مكالمة فقط .
*******************
قريتى الصغيرة فى جنوب الصعيد درجة الحرارة تقترب من الغليان ، جاء لزيارتنا قريب لنا جاء من ليبيا منذ أيام ، عندما سلم على وعانقنى وبدأ الحديث بيننا ، أخرج من جيبه هاتفاً من الهواتف الذكية وقد اشتراه من ليبيا ، أخبرنى أنه يريد ضبط الساعة على توقيت مصر ، أمسكت الهاتف بيدى وكان بشاشته كسر يؤكد أن قريبى قد اشتراه مستعملاً ولم يكن جديداً ، شعور غريب انتابنى عندما أمسكت هذا الهاتف ، رأيت عبر شاشته المكسورة أيامى التى قد خلت ، رأيت عبرها مستقبلى الذى هو فى علم الغيب ، فى هذه اللحظة قررت أن أمتلك هذا الهاتف بأى ثمن سأمتلكه .
عرضت على قريبى شراء هذا الهاتف سرعان ما وافق على بيعه وخاصة لأن قريبى لا يعرف القراءة ولا الكتابة فمن الصعب تعامله مع الهاتف الذكى .
تمت الصفقة وغادر قريبى وانفردت أنا بالهاتف قمت بضبط مواقع التواصل الخاصة بى .
وفى المساء جاءت لى رسالة من حبيبى الذى لم اسمع عنه شيئا منذ خمس عشرة سنة ، ودونت تفاصيل هذه المكالمة فى قصة قصيرة بعنوان المكالمة الأولى نشرتها على موقع انفراد وفى مجموعتى القصصية التى نشرت بعمان الأردن بعنوان من أجلك ..
ومن هذه اللحظة تغيرت كل حياتى على المستوى الأدبى والعاطفى .... توالت الإصدارات ، وتوالت المكالمات بينى وبين محبوبتى ، عشرات الساعات من الحب وعشرات الساعات من الكتابة .
تعلقت بهاتفى الذى لم يعد يفارق أذنى أو عينى مطلقا ، وغير مسموح لأحد بلمسه وكنت أحصنه بكلمة سر تتغير باستمرار لمنع المتلصصين.
قصص كثيرة كتبتها عن لحظات السعادة التى عشتها مع هاتفى والكثير منها نشرته هنا وهناك وعبر صفحتى .
لاحظت زوجتى وأولادى ـ نسيت أن أخبرك أننى متزوج ولدى أبناء ـ انشغالى بهاتفى ودائما أتحجج لهم بالعمل ودور النشر .
كنت كلما أردت اتصالا من حبيبتى انظر فقط للهاتف ولا تمضى لحظات حتى يأتى الاتصال.
أيقنت مع الأيام سر هذا الهاتف الذى ربما كان لعاشق مثلى ، أو ربما حوت ذاكرته تعويذة ما ، ولعله مسكون بجان عاشق .
رغم ذلك أحببت هذا الجان وعشقت تعويذته ، وأيقنت بسحره ، حفظت سره وحفظ أسرارى بعيدا عن كل البشر .
مرت سنوات وحالة الهاتف تزداد سوء ، البطارية لا تكمل نصف ساعة الشاشة تتشعب كسورها .
اشتريت له بطارية جديدة .. اثنين ثلاثة ....
الكل ينصحنى بشراء هاتف جديد ... يقولون أن هذا الهاتف لم يعد يصلح لى ... فكرة الاستغناء عن هذا الهاتف كانت ابعد ما يكون عن تفكيرى ... كيف استغنى عن حبيبى عن الكتابة عن النشر .. كل ما حدث من نجاح كان لهاتفى الدور الأكبر فيه ..
زوجتى تحدثنى كل ليلة فى تغيير هذا الهاتف .. وأقول لها : هذا الهاتف أتفاؤل به فكيف استغنى عنه .
حتى جاء يوم ميلادى .. أحضرت لى زوجتى هاتفا جديدا .. قدمته هدية لى ... عندما رأيت هذا الهاتف ارتسمت على وجهى علامات الرعب .
قالت زوجتى : ألا تقبل هديتى ، أنا اعرف حبك لهاتفك ، جرب هذا الهاتف ولن تندم ، جربها لمدة أيام وإن لم ينل رضاك عد لهاتفك القديم .
هاتفى القديم كيف أصبح هاتفى يوصف بهذا اللفظ بل هو هاتفى الوحيد .
بعد إلحاح من زوجتى قبلت العرض ، قبلت أن أجرب مجرد تجربة لهذا الهاتف الجديد ، وإن فشلت التجربة عدت لهاتفى الأوحد وليس القديم.
نزعت شريحتى الاتصال من هاتفى ووضعتهما بالهاتف الجديد ، وكانت هذه العملية اقرب لعملية نقل الأعضاء من جسد لجسد . صمت هاتفى الحبيب وكأنى نقلت قلبه لشخص آخر .
وضعت هاتفى فى الدرج كما توضع الجثة فى قبرها ، أمسكت الهاتف الجديد وقد أعدت زوجتى عليه كل البرامج التى استخدمها .
رغم حداثة الهاتف الجديد إلا أننى أحسست بغربة وأنا ممسك به ، غربة من بدل محبوبته .. غربة من بدل وطنه .. غربة من بدل قلبه .
مرت أول ليلة دون اتصال من محبوبتى ، دون رسالة ، هل الأمر كما أظن ؟ أم الأمر كله خيال ، ولم تتصل بى محبوبتى وقد خُيل لى كل هذه الرسائل وكل ساعات الاتصال .
هل هاتفى الأول يحوى جان هو من دبر هذا الخيال هو من تقمص دور حبيبى ؟ ، ولكن كيف عرف صوتها ، وأسلوب حديثها ؟
مر أسبوع بهذا الهاتف الجديد دون جديد .. دون اتصال .. دون رسالة واحدة ، مر هذا الأسبوع دون أن أكتب كلمة واحدة .. مر هذا الأسبوع وكأنه نصف العمر ..
أسبوع واحد هو ما قررت أن يكون عمر التجربة .. أسرعت لهاتفى الحبيب ، فتحت الدرج لم أجده .. أين هو ؟ .. أين اختفى ؟
سألت زوجتى وقالت : لقد أخذه ولدك الصغير وقد وضعه فى الماء وهو يلعب به .
نزل الخبر على كصاعقة نزلت من السماء ، أخذت أصرخ وأصرخ وزوجتى تهدئ من حالتى ، وفى النهاية رضيت بقضاء الله .
حاولت إصلاح الهاتف الحبيب دون جدوى . مرت أيام وشهور وأنا انظر لجثة هاتفى والهاتف الجديد ، واسأل نفسى هل يمكن أن ننسخ الجان العاشق من الهاتف القديم إلى الهاتف الجديد ؟ هل تقبل العفاريت النسخ ؟ أتحدث كل ليلة مع الهاتف القديم والهاتف الجديد راجيا الجان أن ينتقل من القديم إلى الجديد ، أرجوه أن يكمل ما بدأه حتى ولو كان وهماً .. خيالاً .. وزوجتى تنظر لحالى كل ليلة محاولة أن تفهم ما يحدث .
كلما مرت الأيام تأكد ظنى بسر هاتفى الحبيب .. السر الذى أسعدنى لسنوات طوال .
قررت أن أكتب هذه القصة قصة هاتفى القديم ... وعندما نشرتها على صفحتى ... وجدت هاتفى الجديد يرن .. ، رقم غريب لم أره من قبل ...فتحت الاتصال ..
ألو .. أجاب المتصل بصوت يعرفه قلبى ويحفظ نبراته ، إنها حبيبتى .. أحسست أنى أطير إلى علم مجهول من السعادة .
قالت حبيبتى ضاحكة : ما هذا الذى كتبته ؟ لقد حاولت الاتصال بك مرات كثير وجدت رقمى فى قائمة حظر المكالمات عندك ، وعندما حاولت إرسال رسالة لك عبر مواقع التواصل وجدتك قد حذرت حسابى أيضا . هل أنت تفعل كل هذا وتتهم العفاريت والجان وتروى تلك القصص الخيالية ، لقد ظننك لا تريدنى فى حياتك فانسحبت منها ...
تناولتنى مئات المشاعر المختلفة فرح وحزن وغضب وجنون وبهجة ، شرحت لحبيتى ما حدث أنهيت مكالمتى معها ...
وناديت على زوجتى البريئة صاحبة الهدية قائلا لها تعالى يا هانم ..................