الصين هنا وهناك.. الصين فى كل مكان تزحف على كل ما يتركه المستثمرون الأوروبيون والأمريكيون شاغر خلفهم مثل البنية التحتية كالطرق والكبارى والاستثمارات الصناعية الثقيلة والنفطية، لقد أصبح العالم فى قبضة الصين!
لا شك كافة المؤشرات المالية والاقتصادية والعسكرية تؤكد صعود الصين لمكانة القوة العظمى فى المستقبل القريب، فالناتج الإجمالى المحلى وصل لـ 12.238 تريليون دولار وسوف يتجاوز نظيره الأمريكى فى القوة الشرائية عام 2023 إذا ما حافظت الصين على معدل النمو الاقتصادى الراهن والذى يصل ل 6.8 %.
وقد لفت انتباهى مقال نشرته جريدة البيرويانو الرسمية فى دولة بيرو فى يونيه الماضى عن مشروع قطار عابر للمحيطات يربط العاصمة ليما على المحيط الهادئ بمدينة سانتوس البرازيلية على المحيط الأطلنطى وهو مشروع عملاق للغاية فى تمويله والذى يصل لـ 10 مليار دولار وهو أيضاً مشروع قارى يشبه "الحزام والطريق" والجدير بالذكر أن دور الصين لا يتوقف عند تمويل المشروع وإنما يصل إلى استثمارات أخرى حيوية مثل الاتصالاتوالتعدين ويعد مشروع توروموكو للنحاس الأبرز والذى يصل عدد العمال به لـ 3500 عامل بقوة إنتاجية 172 ألف طن يومياً خاصة بعد توقيع الرئيسان البيروفى مارتن فيزاكارا والصينى جين بينج عليه، هذا التغلغل الصينى يطرح تساؤل عن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على الأميركتين والتى دامت لأكثر من قرن وقمعت أى محاولة لغرس علم غير علمها فى غرب الأطلسى وإن بدت أزمة الصواريخ الكوبية الواقعة الفريدة.
فرض واشنطن جمارك جديدة على صادرات الصين من الحديد والألومنيوم لن يكبح الصعود الصينى وقد يؤخره قليلاً نظراً للضرر الذى سيلحقه بمعدلات نمو الاقتصاد الصينى على المدى القصير لكن تملك الصين الكثير من المشروعات العابرة للحدود وأخرى وطنية فى دول العالم النامى وهى أصول متينة ومستدامة بدرجة كافية لتجعلها بديلاً أو تعويض بالأحرى عن الخسائر فى السوق الأمريكى الذى لجأ لسياسات حمائية أكثر من التوسعية مما يؤكد تدارك صناع القرار فى واشنطن لحجم الخطر الداهم خلف التوسع الاقتصادى الصينى العابر للقارات.
مشروع الحزام والطريق الذى أطلقته الصين لربط اقصى شرق أسيا بأوروبا مروراً برياً وبحرياً بوسط وجنوب أسيا ثم شمال افريقيا وشرق أوروبا سيمثل دفعة بالغة القوة لهيمنة الصين على مناطق اعتادت الدوران فى فلك الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتى سابقاً، فالصين بالفعل تملأ الفراغات التى خلفتها كلاهما، فهذا المشروع لا يشمل فقط بناء طرق وكبارى وإنما يمتد لمشاريع أضخم فى التعليم والثقافة وتشييد مصانع على امتداد الخط الطويل للمشروع والذى يبدأ من ميناء فوزو، شنغهاى، جوانجزو، زانجيانج فى شرق الصين مروراً بجاكارتا وكوالا لامبور وكولومبو ونيروبى والسويس وأثينا وفينيسيا ثم غرب أوروبا، أما المسار البرى يبدا من نفس الموانئ ويمر ببشكيك وسمرقند وطهران وإسطنبول ثم غرب أوروبا.
إذاً هذا الصعود الصينى الذى يحتاج لعشرات المقالات لشرح كل تفاصيله.. متى يتوقف ومَن يستطيع إيقافه ؟ أسئلة هامة تطرح نفسها خاصة بعد تبدى فشل الحرب التجارية الأمريكية بالأفق.
وقد يمثل وقف اقتصاديات الدول النامية استيراد المنتج الصينى أحد آليات وقف الصعود الصينى لكنه يتوقف على حزمة قرارات وإجراءات معقدة داخل تلك الدول نفسها حال توفر لديها البديل إما الوطنى أو الخارجى، فدولة بنين فى غرب أفريقيا مثلاً تستحوذ الصين على 33% من وارداتها لتأتى بالمرتبة الأولى ثم فرنسا والولايات المتحدة، وفى مارس الماضى طلب رئيسها تالون من شركة "بولور" الفرنسية الانسحاب من مشروع طريق يربط نيامى بمدينة كوتونو وافساح الطريق للصين لتنفيذ المشروع حيث تبلغ ميزانيته 4 مليار دولار ويبلغ طوله 740 كيلومتر. وبعد طرد الشركة الأوروبية، ما هو البديل أمام بنين سوى الصين !
أما ملفات النزاعات فى شرق آسيا مثل طموحات ابن العم فى بيونج يانج وضم تايوان وتقاسم بحر جنوب الصين وأزمة جزر سبراتلى قد تمثل حجر عثر أمام تنامى الصعود الصينى إقليمياً وليس عالمياً.
ويأتى تأجيج الخلافات بين القوميات داخل الصين نفسها فى المرتبة الثالثة، ويعتبر إقليمى شينجيانج والتبت الأكثر طموحاً للإنفصال لهويتهما الإسلامية والبوذية إلا أن الحزب الشيوعى فى بكين فرض تدابير شديدة القسوة لقمع أى محاولة للتجمهر أو الترويج للانفصال.
أما مقاومة غرب أوروبا، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا للصعود الصينى يشكل السيناريو الأهم خاصة مع تفوق المستثمر الصينى فى المناقصات والمشروعات الاستثمارية بالدول النامية الواقعة فى المحيط الإقليمى لتلك القوى الصاعدة، وتعتبر بنجلاديش نموذج واضح ففى عام 2016 اعربت الهند عن خوفها من العلاقات العسكرية مع الصين خاصة بعد بيع بكين غواصتين لحكومة دكا ومع ضغوط هندية قررت الرئيسة البنجلادشية حظر التعامل مع بعض الشركات الصينية الحكومية مثل شركة الصين لهندسة الموانئ سى اتش أى سى مُدَعية أن الشركة حاولت تقديم رشوة للمسئولين،ولعل نجاح ضغوط بكين على حكومة ميانمار لحل أزمة الروهينجا وفشل الهند يعكس بقوة احتمال مقاومة القوى الصاعدة للتوسع الصينى.
وما بين التحديات الإقليمية والداخلية، لا تُجدى تكتيكات واشنطن لإبطاء نمو الصين بل وتترك فراغات دولية تملؤها فتزداد قوة وتضعف فرص إعادتها إلى خانة القوة الإقليمية.