كانت العلاقات الانسانية والعاطفية والجنسية بين الجنسين روابط سمتها الثبات والاستمرار والعيش من أجل الآخر وتحولت الآن الى روابط عابرة وآنية وهشة تتغير بين لحظة وأخرى . تماما كما تستهلك السلع في زمن الاستهلاك السريع وابدأ مقالي هذا بتسائل هل هذا سبب المشكلات الأسرية التي يعاني منها المجتمع الآن وارتفاع نسب الطلاق وضياع الابناء وظهور الكثير من العلاقات العابرة بصورها المختلفة ؟
وللاجابة عن هذه التساؤلات لابد من فهم التغيرات في العلاقات العاطفية والوجدانيه والأسرية والجنسية وعلاقتها بالتحولات في المجال العام وتأثيره على المجال الخاص والشخصي.
ففي عصر التحديث الاجتماعي وعصر الرأسمالية أصبح ما يحرك العالم اليوم هو الفائدة ولم تعد الروح المركزية التي تهب اعضاء الجسد الواحد كما هي بل اصبح كل عضو على يقين بأنه مكتف بنفسه فمجيئ الحداثة احدثت تحولات كثيرة في العالم الأصغر ( الأسرة) والعالم الأكبر ( الدولة / الأمة ) . فمن زاوية الحكومات والانظمة السياسية من خلال العلمانيه التي تعمل على تحييد الدين كنسق قيمي واضعاف الثقافة الدينية في المجتمع علاوة على هيمنة الدوله وسيطرتها على الخدمات العامة وحياة الافراد والقيام بتحويل الوظائف المختلفة التي تضطلع بها الأسرة لمؤسسات الدولة ( لاحظ تدخل الدولة في كل ما هو أسري من علاقة الزوج والزوجة الى علاقة الاباء والابناء وبذلك تم اخراج الاسرة للمجال العام ) مما افقد الاسرة سلطتها
على الفرد وانكماش دورها وغياب سلطة الاب الروحي ( كبير العائلة او شيخ القبيله كما كان في السابق).
ومن زاوية أخرى وببعض النظر والتدبير سنجد ان التكنولوجيا قد أدت دورا بالغا فيما وصلنا اليه فشبكة الانترنت وعالم العلاقات الافتراضية ليس عليك الصبر ولا التضحية ، انها ثقافة العلاقات المريحة سواء بقيت على الشاشة او انتقلت الي الواقع بشروط العالم الافاتراضي : إنه يمكنك إنهاء العلاقة في اي وقت إذا لم تكن راضيا عنها وبالتالي لديك خيارا ( أنهاء الصداقة – غلق النافذة – الاقصاء ومنع الطرف الىخر من الوصول اليك) انها خيارات العالم الافتراضي التي باتت سمة بعض العلاقات بين الأجيال الجديدة بل وتسربت الى القديمة.
فاذا ما راجعنا في عالمنا العربي معدلات الطلاق وزيادة العنف الاجتماعي سنفهم الصلة بين ما سبق فالحداثة فككت المجتمع بمعناه العضوي .
ومن زاوية الثقافة الاستهلاكية فهي ثقافة زرعت تفضيل المنتجات الجاهزة للاستخدام الفوري والاستعمال السريع والاشباع اللحظي والنتائج لا تحتاج الى جهد طويل و وعندما يدرك المستهلك .
أن السلع التي اشتراها غير مرضيه يمكن استبدالها بسلعة اخرى اكثر ارضاء إذا اوفت هذه السلع بوعودها، ولنا في السيارات الأنيقة الجيدة والهواتف النقالة خير مثال إذ يلقى بها في اكوام القمامة من دون أسف ما ان تظهر نسخ جديدة ومعدلة وتصبح حديث المدينة ليس لحاجة ملحة ولكن رغبة في التغيير فكما يقول هارفي فرغسون ان المتسوقون لا يشترون اغراضهم إشباعا للرغبة بل تحقيقا للامنيات.
فهل من سبب يستثني علاقة الحب من هذه القاعدة؟.
كل ذلك خلق جيل جديدا ( صوته من دماغه) جيل لا يحكم ارادته معيار خارجي وطبيعته التي تم اختزالها في الجانب المادي والولع بالفردية واثر ذلك في خياراته العاطفية والجنسية فأصبح جيل يبحث عن علاقات خفيفة وفضفاضة فهو جيل يتحدث عن متع العيش المشترك ولا يرغب في التقيد او الالتزام جيل يردد كثيرا عبارة "لا أريد أكون وحيدا ولا أريد الارتباط"
جيل تأثر بعصر قطع الغيار واستبدال المنتج قبل نهاية فترة الضمان ولا يريد او يرغب في تعلم فن اصلاح الاشياء، فهو يميل الى ثقافة استبدال المنتج اذا وجد أن العلاقة مع الشريك الآخر قد عضبت خاصة في ظل الضغوط المالية والعائلية. فأصبح جيلا مؤمنا بأنه إذا اراد الاستمتاع بالحياة المشتركة فلا يقطع على نفسه عهدا ولا يطلبه بل يجعل الابواب كافة مفتوحة على الدوام.
انه عصر الفرصة القادمة التي تجعل ما في يدك قابلا للتخلي عنه فلا ترتبط به بشده فقد لا يكون شريكك هو الآخر راغبا أو قابلا لعلاقة طويلة تحرمه من فرص أفضل.
فالاجساد في النهاية قد يصيبها الملل أو تزهد في جسد قد أصابه التعب. ولكنه جيل يفتقد الي مهارات تثبيت العلاقات وكيفيه قطعها اذا اقتضى الامر من دون ضرر وضمير مرتاح.وربما يفسر لك عزوف الناس عن الحديث عن تجاربهم بمصطلحات" الارتباط" و " العلاقات" وميلهم الى استخدام مصطلحات كالتواصل والاتصال و الصداقة. فغياب الافق للمستقبل وكثرة الاحباطات والضغوط الاقتصادية وارتفاع تكاليف الزواج .
وعدم الرغبة في التقيد والالتزام جعل هذا الجيل ينتج علاقاته متأثرا بأريحية العالم الافتراضي للانترنت وهو يدرك ان وعود الارتباط في هذه الايام التي يقطعها أهل الحب لا معنى لها على المدى الطويل فظهرت صيغ زواج حديثة تتسول الفتوي الدينية من أجل اضفاء الشرعية على علاقة مبتورة تتسم بالتأقيت ولا تحقق مقاصد الدين ولذا وجب العودة الى أصل ومقومات العلاقة بين الرجل والمرأة والتفرقة بين الحب والرغبة.
فالرغبة والحب لهما مقاصد متعارضة، فالحب شبكة تنسج من أجل الأبدية ، وأما الرغبة فوسيلة للهروب من الاعباء الثقيلة التي يتطلبها نسج الشباك، فالحب كما يقول عالم الاجتماع باومان في تحليله: الحب بطبيعته يسعى الي إدامة الرغبة وأما الرغبة فبطبيعتها تهرب من قيود الحب. فاذا استثمر المرء في علاقة حب فالربح الذي يتوقعه هو الأمن في المقام الاول والأخير، أما الرغبة فبطبيعتها مؤقتة فمها العلاقة طالت او قصرت فلابد ان تنتهي كأي شيئ مؤقت .
فكتير من العلاقات تبدأ بتعارف برئ وعلاقة صافية جمعت بين أثنين وقد تتطور هذه العلاقة أو لا تتطور ولكن اخطر ما في الامر كما قال عالم الاجتماع باومان في احدي نظرياته الاجتماعية أن العلاقة العاطفية في ظل غياب أعمدة وسقف ستسودها روح المغامرة بكل تأكيد وهو يظن انه سيجد جنته المفقوده ، فيعلم العاشقان أن التغير قادم وهما يستقبلانه بالترحاب ويقفزان من دون تردد في بحار لا يألفانها، ففرصة الانفتاح على المجهول أعظم إغواءات الحب وتصف كاترين جارفي خبيرة العلاقات الزوجيه لحظة الوقوع في الحب قائلة: " تلتقي اعينكما عبر غرفة مزدحمة ، تشتعل شرارة الجاذبية ، تتجاذبان أطراف الحديث ، تضحكان ، تتناولان الشراب أو تمزحان ، ويحدث بين الكلام والكلام " كلام" وفي طرفة عين لا يلقي لها بالا اي منكما لما يحدث ولكن يطريقة او بأخرى قد تتحول ليلة واحدة الى اسبوع ، ثم الى شهر ، والي سنة، تلك هي النتيجة المفاجئة لتوهج الرغبة الجنسية التي تخمدها ليلة واحدة.
وهناك انواع أخرى من العلاقات المؤقته او الخفيه سواء كانت بدافع الحب او الرغبة بلا روابط وما داموا بلا روابط ، لا بد من ان يخلقوا بعض العلاقات من دون ان يضمنوا دوام تلك العلاقات لسد الفجوة التي تتركها الروابط المفقودة او البالية. نذكر على سبيل المثال لا الحصر حيث لا يتسع المقال هنا لذكرها بعض تلك العلاقات ومنها "علاقات الجيب العلوي" أي تلك العلاقات التي يمكن إخراجها من الجيب عندما يحتاجون اليها وتري جارفي ان علاقات الجيب العلوي هي علاقة وعابرة ، وربما نفترض انها غزبة لانها عابرة وان عزوبتها تكمن تحديدا في الوعي المريح بانك لست مضطرا الى بذل الجهد للابقاء عليها وقت اطول فعلاقات الجيب العلوي هي تجسيد حقيقي للاستهلاك اللحظي وتلك العلاقة لابد لها من استيفاء شروط معينه ودخول العلاقة بوعي كامل ويقظة تامة ولا تدع العلاقة تفلت من مراقبة عقلك الثاقب.
وهناك ايضا علاقة " الأزواج شبه المنفصلين" فهم الثوار الين يفجرون فقاعة العلاقة الزوجية الخانقة وربما يتعلمون ان العلاقات مثل السيارات ينبغي أن تخضع للفحص السنوي للتأكد من صلاحيتها فخلاصة ما يتعلمونه هو أن الاتزام ولا سيما الالتزام طويل المدي هو أخطر فخ ينبغي عليهم الحذر منه عند الارتباط.فهم مؤمنون أن اي التزام يلزمون انفسهم به فهو التزام فاتر قد يغلق الباب أمام امكانات رومانيكيه أخرى ربما تكون أكثر امتاعا وإشباعا.
تلك الهشاشة المخيفة التي اصبحت تعانيها الروابط الانسانية والاحساس بعدم الامان ، والرغبات المتصارعة واحتقان الغريزة وكبتها كلها ذلك يهدد الحضارة حين يتحول الجنس الى ماده استهلاكية فعلى رجال الدين والعلم والاسرة ان يعيدوا رسم الحد الفاصل بين الاستقامة والانحراف في الجنس.
ويبقى سؤال عزيزي القارئ: هل الاتصال الجنسي الاول فى هذه العلاقات يعد بداية البداية أم بداية النهاية؟