يخرج من بيته فى أنفته المعهودة بخطوات ثابتة مرفوع الرأس مرتدياً بدلته الأنيقة ليستمع لبواب العمارة وهو يناديه (صباح الخير يا سعادة البيه)، فيرد هذه المرة بأسلوب أفضل من ذى قبل قائلا (صباح الخير يا عبده) ورغم استغراب البواب لهذا الذوق العالى الذى تنزل على سعادة البيه فيبادره البواب (العربية لسه موصلتش يا باشا) فيقول له (أيوه أيوه أنا عارف فيها مشكلة فى الصيانة وممكن تاخد وقت)، ويستوقف سيارة أجرة وينطلق وفى الطريق يطلب من السائق أن يذهب به إلى (مدافن) أسرته وعند نزوله يتجه إلى قبر والده فيجلس مطأطئا الرأس تنهمر العبرات من عينيه متسارعة وبدأ يحادث المجهول ها أنا ذا أعد أنفاسى لألحق بأهلى ورفقاء الدرب الذين سبقونى للرفيق الأعلى.
فقد خرجت أمس على المعاش فلم يعد هناك السائق الذى ينتظرنى ليحمل عنى حقيبتى ولن أحظى باهتمام أحد ممن كانوا تحت رئاستى فقد كانت فترة رئاستى للمصلحة صعبة عليهم فقد كنت حاداً فى تصرفاتى أتابع كل كبيرة وصغيرة أجازى كل من يستحق الجزاء، وكنت ألمح فى عيونهم مدى كرههم لى رغم أننى كنت نظيف اليد أقوم بعملى بما يرضى الله ولكن كنت غليظ عليهم فى بعض الأحيان متخذاً من الشدة سبيلاً لنجاح المؤسسة التى أقودها.
وبعد أن هدأ من هذا البكاء المتسارع بدأ يلتفت يمينه وشماله فلم يجد أحدا فلملم ما تبقى من قوته وسار فى الطرقات المجاورة للمدافن كأنه يرى (الشوارع) للمرة الأولى فهو ينتوى أن يظل خارج المنزل حتى يعود فى نهاية أوقات العمل الرسمية فهو يرى فى خروجه على المعاش كارثة بكل المقاييس فهو لم يعمل فى حياته فى غير وظيفته الرسمية التى حصل عليها بعد انتهائه من الخدمة العسكرية.
وفى اليوم التالى يصنع نفس الشىء من خروج من المنزل فى هدوء وبكامل لياقته وأناقته موهماً نفسه أنه مازال على رأس العمل، لكن هذه المرة أستوقف سيارة الأجرة لتتجه به إلى شاطئ النيل ليجلس فى سكينة متجهاً بنظراته إلى ماء النهر الذى يتدفق فى بداية فصل الخريف وإذا بيد تربت على كتفه وصاحبها يقول له (حمدا لله على السلامة) ويداعبه بقوله (كفارة يا رجل) فيلتفت ليجد صديق عمره الذى سبقه لنفس المصير منذ سنوات بسيطة.
فيبوح له بمكنون قلبه وما يعانيه منذ قرار خروجه على المعاش فيهدئ صديقه من روعه ويقول له (هذا كأس يا صديقى والجميع سوف يشرب منه لكن يختلف من شخص لآخر فهناك من يعد نفسه جيداً قبل هذا القرار فيأخذه بصدر رحب ويبدأ من جديد فى مشروع حياتى آخر يشغل به وقته الذى أصبح فارغاً فالفراغ يا أخى قاتل للجسم قبل المعنويات، من أجل ذلك أنا سعيد فى حياتى فقد أنشأت مشروعا صغيرا عبارة عن مكتب استشارات وهو يدر على دخلاً جيداً، وأجد فيه نفسى أعطى، كما كنت أعطى وهذا يجعلنى أتمتع بحياتى وأحس أننى مازلت فى مرحلة الشباب، الآن أعرض عليك أن تشاركنى هذا المشروع فأنا أحتاج لخبراتك وقراراتك الحاسمة فسوف تكون إضافة جديدة لى ولك فتغمره السعادة ويكاد يقفز من هول ما سمع فقد أعادت له الحياة من جديد وانطلق إلى منزله يرتقى درجات السلم وقد نسى تماما أن هناك مصعدا كان يستقله للصعود إلى مسكنه وأصبح سعيداً يتمنى الحياة بعدما كان ينتظر الموت.