فى ذاكرة الشعب المصرى أيامٌ خالدةٌ صنعتها أجيال متعاقبة على مر السنين يتذكرها المصريون بعزةٍ وفخر بين حضارةٍ صنعها أجدادهم على ضفاف النيل الخالد، وانتصارات سجلها المصرى دفاعاً عن أرضه من كل غازٍ أو طامعٍ أو محتل ومع اطلالة شهر أكتوبر من كل عام تهب علينا من سيناء الحبيبة رياحٌ محمّلةٌ برائحة زكية لدماء شهدائنا الأبرار تحكى لنا ملحمة تضحية وفداء وبطولات، سطّرها المصريون على تراب سيناء الطاهر فى حرب أكتوبر المجيدة.
لم تكن حرب أكتوبر حربا عادية يمر بها التاريخ كما مر بغيرها من الحروب، بل كان عليه أن يتوقف عندها طويلاً يدرس ويحلل ويتدبر ما قام به المصريون من عمل عظيم وذلك للأسباب التالية: ـ
أولاً : لأن المصريين خاضوا هذه الحرب ـ كعادتهم عبر التاريخ ـ دفاعاً عن أرضهم وليسوا غازين أو محتلين، ولم يدخل المصريون هذه الحرب إلا بعد أن استنفذوا كل السبل فى المحافل الدولية لاستعادة أرضهم بالطرق السلمية، لكن التعنت الاسرائيلى ورفض الانسحاب من سيناء هو ما جعل من الحرب أمراً حتمياً لاستعادة أرضٍ مغتصبةٍ وحقٍ ضائعٍ وكرامةٍ مهدرة.
ثانياً: جاءت حرب أكتوبر بعد 6 سنوات فقط من نكسة 1967 وهى فترة قصيرة جداً لإعادة بناء جيش فقدَ الكثير من جنوده ومعداته فى 67 ليحقق النصر، وكانت هذه الحرب الفرصة التى أُتيحت للجندى المصرى ليُظهِر بسالته ومعنوياته و قدراته القتالية الحقيقية وكما قال الرئيس السادات، إن قواتنا المسلحة لم تُعطَ الفرصة لتقاتل فى 67 ولم تكن أبدًا سبباً من أسبابها بل كانت ضحية من ضحاياها.
ثالثاً : خاض المصريون حرب أكتوبر ضد عدوٍ قوى فرض نفسه على الساحة فى فترة قصيرة نسبياً تؤيده القوى الكبرى فى العالم، وتمده بالمال والسلاح وتدعمه بالقرار السياسى، دخل المصريون هذه الحرب ضد عدوٍ يراهم وجهاً لوجه ولم يكن يبعد عنهم سوى مئات الأمتار ويراقبهم ليل نهار على جبهة مكشوفة يمتد طولها لعشرات الكيلو مترات، فاستطاعوا بعبقرية شديدة مفاجأة العدو بهجوم مباغت تم الإعداد له بدقة متناهية لم تترك احتمالاً للفشل فقد كان لكل خطة أخرى بديلة حالة فشلها وخطة ثالثة حال فشل الخطة الأساسية والخطة البديلة.
رابعاً: كانت حرب أكتوبر بمثابة أول هزيمة حقيقية تكبدتها إسرائيل لتدرك بعدها القوة الحقيقية للجيش المصرى ولتنتهى بعدها أسطورة الجندى الإسرائيلى المتغطرس الذى صوّر له غروره يوماً من الأيام أنه لا يُقهر، وترتب على هذه الحرب تغير موازين القوى فى الشرق الأوسط، وأيقنت إسرائيل أن الدخول بعدها فى حرب جديدة مع المصريين لن يكون فى صالحها.
ومن الإنصاف القول، إن الرئيس السادات قد تحمّل قبل الحرب ضغوطاً شديدة وظروفاً قاسية، فلقد كان الشارع المصرى يغلى ويطالبه بسرعة الثأر متهماً إياه بالتلكؤ وعدم الجدية فى دخول الحرب، لكن السادات تحلى بالصبر أمام كل هذه الضغوط، فلقد كان يدرك أنه لا مجال للمغامرة أو هزيمة أخرى، لذلك فضّل التريث وعدم التسرع وقد استغرق الأمر شهوراً عدة لإنجاز خطة الحرب التى لم تترك شيئاً واحداً إلا ودرسته من طبيعة القناة وحالة المد والجزر بها وسرعة التيار والرياح وتوقيت وأماكن العبور وطبيعة الساتر الترابى ونقاط خط بارليف وموانع العبور والوقاية من الهجوم المضاد وتأمين السواحل المصرية على البحرين الأحمر والمتوسط، وتوفير المؤن للجيش والشعب وقت الحرب والسرية والخداع والتمويه وغيرها، إنه بحق عمل شاق يستحق التحية والتقدير.
كانت الخطة تقضى بتحرير مياه القناة من المواد القابلة للاشتعال أولاً ثم قيام الطيران بضرب المطارات و مواقع القيادة والصواريخ والرادار ومراكز الاتصال ومخازن الأسلحة فى سيناء يعقبه تمهيد بنيران الآلاف من قطع المدفعية على طول الجبهة يعبر بعدها الجنود ويتم فتح ثغرات فى الساتر الترابى لإقامة رؤوس جسور لعبور المدرعات والمعدات الثقيلة، لقد كان الحماس عند الجنود عالياً والرغبة فى الثأر شديدة حتى أن بعضهم من فرط حماسته لم ينتظر الأوامر وبدأ فى إطلاق النيران.
حرب أكتوب المجيدة صفحة مشرفة من صفحات العسكرية المصرية عبر تاريخها الطويل الممتد لآلاف السنين أكد خلالها المصريون أنه لا أحد يستطيع أن يقتطع شبراً واحداً من وطنهم، لأنهم سيدافعون عن أرضهم وسينتصرون لأنهم أصحاب حق وقضية عادلة وبعد انتصارهم سيفرضون السلام سلام القوى وهذا ما أفرزته حرب أكتوبر ، فلقد كان الرئيس السادات يريده سلاماً شاملاً يُنهى الصراع العربى الإسرائيلى فى المنطقة ولم يكن يريد أبدا أن يعقد اتفاقية منفرداً مع اسرائيل، بل دعا كل الأطراف للجلوس والتفاوض لاستعادة الأرض فى وقت كان يمكن فيه الحصول على الشىء الكثير لكن الأطراف رفضت وها هى اليوم تعود للتفاوض من أجل الحصول على شىء قليل مما كان يضمنه السادات، لكن الظروف والمعطيات تغيرت كثيراً وأصبح الحصول على الكثير أمراً مستحيلاً تحية إعزار وتقدير إلى أبطال أكتوبر رموز البطولة والتضحية والفداء.