قرأت مُؤخرًا الرواية الشهيرة لعملاق الأدب النمساوى "ستيفان زفايج" "حذارِ من الشفقة"، والتى لطالما سمعت عنها، ولكن لم يسعنِ الحظ لقراءتها، وبالرغم من أسلوب الكاتب الشيق، والذى ساعده على رواية أحداثها أنها أحداث واقعية، وقد رُويت له بأكملها من بطلها الكابتن "هومفيلر"، إلا أن ما أثارنى فى أحداثها واسترعى انتباهى بشدة، هو فلسفة الشفقة التى طرحها الكاتب فى روايته تلك، عام 1929م، فكلنا ننظر إلى الشفقة من جانب الشخص محل الشفقة، وكم نتعاطف معه ومع ظروفه، ومع ألمه من نظرات الشفقة التى تُحيط به من الآخرين، فكم هو مُزعج هذا الشعور بالنسبة لأى إنسان، لاسيما لو كان عزيز النفس، يأبى عليه كبرياؤه أن يكون مثار عطف من حوله، ولكن فى هذه الرواية كان الكاتب يُحذر الشخص المُشْفِق وليس المُشْفَق عليه، فهو يقولها صراحة أن الشفقة إذا زادت عن حدها تتحول إلى قيد يلتف حول عُنق الإنسان، ويكبله طيلة عمره، لدرجة أنه سيبغض شفقته على الآخرين؛ والسبب ببساطة أنها استحالت إلى التزام نفسى وأدبى تجاه من يُشفق عليه.
وإذا طبقنا هذه الفلسفة على حياتنا، سنجد أننا نفعل ذلك يوميًا دون إدراك منا، وأننا نُعانى من هذا الشعور، وهو الشفقة الحمقاء، لدرجة أننا قد نندم على أننا تعايشنا هذا الإحساس، وتمادينا فيه حتى نهايته، فكم من شخص أسند مهام وظيفته لأحد الأشخاص؛ لرغبته الملحة فى مُساعدته ماديًا، أو لكى يُخرجه من حالة الاكتئاب والوحدة التى يعانى منها، ثم تكشَّف له أنه غير صالح لهذا العمل، ويجد نفسه مُتحرجًا من فكرة إنهاء عمله، وكم من شخص كَبَّل نفسه بزيجة فاشلة؛ بسبب تعاطفه مع الطرف الآخر، إما لظروفه المرضية، أو الاجتماعية، ويجد نفسه يعيش حياة بائسة، لا روح فيها ولا معنى، ويبيع عُمْره، وهو نادم على هذه الشفقة، التى أودت بحياته بأكملها، وقد تتسبب الشفقة المُفرطة فى تدمير حياة أعزِّ الأشخاص لدينا، وذلك كالأب أو الأم الذين يُفْرِطُون فى تدليل أحد أبنائهم، والاستجابة لكل طلباته؛ بسبب مروره بظروف خاصة، أيًا كانت صحية أو نفسية أو بدنية، فتكون نهايته قاتلة، بسبب شفقتهما عليه، وتتحول طلباته غير المنطقية إلى قيد نفسى عليهما، لا يستطيعان التنصل منه.
فهل تذكر تلك القصة الخيالية، التى تحكى عن الشيخ الأعرج، الذى كان راقدًا فى عرض الطريقة، حين مر به شاب، فناشده أن يحمله على كتفه، فأخذت الشفقة ذلك الشاب، ولبَّى النداء، وسُرعان ما تبين له أن ذلك القعيد المسكين ليس سوى جِنِّى شرير، لا يكاد يستقر فوق كتف حامله، حتى يعقد فخذيه العاريتين حول رقبته، فيسلبه إرادته، ويجعل منه عبدًا خاضعًا له، يحمله إلى كل مكان يقصده، ولا يكون له حق فى الراحة، مهما وهنت قواه أو جفَّ حلقه من الظمأ. وهكذا غدا الأحمق ضحية تعسه لشفقته إلى الأبد، فحقًا الشفقة ليست دائمًا شعورًا إيجابيًا، بل يمكن أن تكون سبب فى نكبة صاحبها أبد الدهر، فلو أردت أن تتعاطف مع غيرك، فلا بأس فى ذلك، ولكن ليس بالشكل الذى يقضى عليك إنسانيًا، ويُحَمِّلُك فوق طاقتك، ويُجبرك على بُغض إنسانيتك، فهنا ستتحول إلى عبد من عبيد الشفقة، والعبد لا يمكن أن يتحرر من عُبوديته، إلا بفرمان من سيده، وهذا الفرمان لا يصدر أبدًا.