يستقبلني هاشاً باشاً محاولاً الاستناد على عصاه تلك الأداة التي تبقت له من الزمن الجميل فهو ورغم هذا العمر المديد الذي يظهر جلياً على حركته وتنقله مازال يعرف ويقدر قيمة الضيف فهو يأبى أن يستقبل ضيفه وهو في وضع الجلوس بل أنه يفعل كل ما يستطيع حتى يقابلك واقفاً ليثبت لك أنه مازال بخير قلباً وعقلاً وقدراً فمن موروثه الذي تربى عليه أنه لا يعرف قيمة الناس غير أبناء الأصول
عندما يحادثك تستقر كلماته في قلبك لأنها تخرج من قلب لم تلوثه المداهنة ولا المراوغة أو ما نسميها نحن ( الذكاء الصناعي ) فهو من الزمن الجميل في كل شيء حتى في محافظته على كلماته وكيف يخرجها بعد فحص حتى لا يجرح بها شعور الغير ، ينتقي كلماته حتى تخرج من جلستك معه بفائدة فهو لم يتعود على السفه أو تضييع وقته ووقت جلسائه في هزل أو لغط لا طائل منه
أبدأه بسؤالي ما الفرق يا جدي بين أيامنا وأيامكم ؟ فتخرج من فمه تنهيدة عجيبة تعبر عن مرارة في حلقه ثم يقول لم نكن يا ولدي ملائكة وأنتم شياطين ولا أدعي أننا في مصاف الأنبياء معصومون من الخطأ ، لكن يا ولدي وبرغم ذلك هناك فارق كبير بين العهدين فقد تفوقنا في شيء وتفوقتم في أشياء فقد كان عندنا تعليم محدود أما أنتم الآن فالعالم أجمع أصبح على مرأى ومسمع منكم فكما يصفونه أنه أصبح قرية صغيرة ، لكن مع الفارق يا ولدي فنحن قد أخذنا من العادات الجميلة والتقاليد الراقية الكثير أما أنتم فمصادركم أصبحت حديثة لدرجة أنك من الممكن أن تأخذ جل سلوكياتك من المدعو ( ألنت )
كنا نعرف قيمة الكبير ونوقره ونعطف على الصغير ونحتضنه ، كنا نصل الرحم وننتظر قدوم الضيف في أي وقت شاء ، أما أنتم يا ولدي فأصبحتم تتواصلون مع أرحامكم على وسائل التواصل الاجتماعي مثل ( الفرنجه ) ثم يفاجئني بسؤل مباغت وقال لي هل تتذكر آخر مرة قبلت فيها يد والدك أو والدتك أثناء سلامك عليهما ؟ وأردف بسؤال آخر هل تذكر آخر مرة زرت فيها عماتك وخالاتك أو أخواتك المتزوجات ؟ ألم تعلم أن دعوة الأرحام تطيل العمر ؟
يا ولدي الاهتمام بالعلم والتقدم ليس عيباً فلست رجعياً كي أجعلك تكفر بهذه الحداثة التي أصابت العالم ، ولكن عليك يا بني أن توفق أوضاعك معها بحيث تأخذ منها ما يفيد دينك ودنياك وآخرتك وأن تدع عنك ألأمور التي لا تليق بمجتمعنا الشرقي فنحن يا ولدي في مكان صدر الدين للعالم أجمع فمن منطقتنا كان موسى عليه السلام ومن مصرنا كانت بداية عيسى عليه السلام ومن أرضنا العربية كان خاتم الرسالات محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
يا ولدي راجع تاريخك المشرف في كل شيء ولابد أن تفكر كيف تضيف عليه لابد أن تضع ( بصمتك ) لأنك تاريخ لمن بعدك وحتى تذكر لأبنائك وأحفادك الدور الذي قمت به في حياتك وإلا ستسلمهم فراغ في فراغ وساعتها لن يكون من حقك أن تحاسبهم على أي شيء مما سبق ففاقد الشيء يا ولدي لا يعطيه
تركت ذاك الشيخ الكبير وجلست منفرداً أردد كلماته وأنظر إلى واقعنا الحالي وما وصلنا إليه من تفكك أسري ومن سلوكيات إستوردناها بأنفسنا ونحاول أن نسقطها على أرض الواقع رغم أنها لا تشبهنا ، فهل ننهض قبل فوات الأوان ونضع الأمور في نصابها أم أن دوامات العصر الحديث ستجرفنا وتبعدنا عن موروثاتنا الجميلة وأخلاقنا العظيمة التي تربى عليها الآباء والأجداد ؟ ..........