"التغيير .. سُنّة الحياة"، أمر لا خلاف عليه، فقد عهدنا التغيير في كل أنماط حياتنا، خاصة مع تغيير مراحلها، والتغيير يطرأ على أفكارنا، وأحلامنا، وتوجهاتنا، وسلوكياتنا، وأيضًا أشكالنا، وقطعًا يتطرق كذلك إلى مشاعرنا، ولكن هل هذا التغيير مُطلق بلا حدود، أو بمعنى أدق بلا منطق؟!
فأذكر أننا قديمًا، ولا أقصد هنا بكلمة "قديمًا"، من عشرات أو مئات السنين، بل منذ بضع سنوات، كانت الجرائم رغم وجودها مُنذ بدء الخليقة، عندما قتل "قابيل" شقيقه "هابيل"، إلا أنها كانت لها دوافع، قد تبدو إلى حد ما منطقية من وجهة نظر الجاني على الأقل، لذا لم تكن الجرائم تأخذ حيزًا واسعًا من الإعلام، فكانت لا تلقى اهتمامًا سوى على صفحات الحوادث، وإذا حدث وارْتُكِبَت جريمة، تتسم بالبشاعة، كانت تتحول إلى قضية رأي عام، وتكون مثار جدل من كل الناس؛ لأنها كانت أمرًا استئثنائيًا، إما لبشاعتها، أو لعدم منطقيتها، أما الآن، فأصبحت الجرائم البشعة وغير المنطقية أمر طبيعي للغاية، لا يستثيرنا، ولا يستفز مشاعرنا، فمثلاً في الماضي، عندما كنا نسمع أو نقرأ أن هناك أخ قتل شقيقه، أو أب قتل ابنه، كنا نُحدق أعيننا، ونفتح أفواهنا من الاندهاش والاستنكار، في آن واحد، وبعد ما نستفيق من الصدمة، نسأل عن الأسباب، أو طبقًا للمُصطلح القانوني، نسأل عن الدوافع والباعث، وكان أول ما يتبادر إلى أذهاننا، بعد أن نستمع إلى تلك الدوافع، وحتى لو التمسنا بعض الأعذار لمرتكب الجريمة، هو كيف استطاع أن يقتل أقرب الناس إليه، وهل هان عليه، وكيف طاوعه قلبه؟! كل تلك الأسئلة كنا نُرددها لاإراديًا، مهما كان عُذْر الجاني أو دافعه، وحتى لو كان سلوكه رد فعل لسلوك المجني عليه؛ لأن الجريمة كانت بالنسبة لنا أمر مرفوض، لا يقبل النقاش أو الجدل.
أما الآن، فأصبحنا لا نندهش من الجريمة، مهما بلغت شناعتها، ولا نعبأ بدوافعها، وكأن هذا السلوك أصبح مألوفًا لدينا، من كثرة حدوثه، وكأن آذاننا اعتادت أن تسمع العبارات الخاصة بالسلوك الإجرامي اليومي، والغريب في الأمر، أننا لم نعد نتساءل الأسئلة التي كُنا نُرددها في السابق، فلم نعد نقول، كيف طاوعه قلبه، وكيف استطاع أن يقتل أعز الناس لديه، فردود أفعالنا أصبحت باردة، لا حياة فيها، وكأن هذه السلوكيات الشاذة باتت أمر عادي، مُستساغ للأذن، وأيضًا للمشاعر، والأغرب من ذلك، أن الجرائم طالت حتى الألعاب التي تُسلينا عبر الإنترنت، فكم من لعبة تسببت في جرائم قتل، وانتحار، وكأننا نستنشق الجريمة في جدنا وهزلنا، ولم نعد نُعطي للمشاعر أدنى اعتبار، فكلنا سمعنا وقرأنا عن جريمة الرحاب، ولكن يجب أن أُعَدِّل العبارة؛ لأن عبارة "جريمة الرحاب"، تُوحي بأنها جريمة واحدة في مدينة الرحاب، ولكن في الواقع، هناك أكثر من جريمة في كل مدينة، وكُلهم يتصارعون في قدر البشاعة، وأنا هنا أقصد جريمة الفتاة التي تآمرت على قتل خطيبها مع والدها، وبعيدًا عن الرحاب، كذلك جريمة الأب الذي ألقى بطفليه من السيارة، وغيرهما كثيرًا، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل هذه السلوكيات من ضمن التغيير المطلوب في الحياة، أما أننا أصبحنا لا ندري حجم المأساة التي نعيش فيها، وأين كانت مشاعر هؤلاء الجُناة أثناء ارتكابهم لجرائمهم؟ فالواقع يا سادة، أن هذه السلوكيات، سواء بالنسبة لمُرتكبيها أو مُستقبليها، تُؤكد أمرًا واحدًا، لا خلاف عليه، وهو أننا أصبحنا بلا جدل، عايشين في الغيبوبة.