أجدنى فى مواجهة الكتابة إليك، هشاً ضعيفاً عاجزاً، لا يكاد عقلى ينهض بفكرة أو خاطرة، لا أملك حروفاً ولا كلمات، ولا ألتجئ إليها، حين تعجز عن الوصف والتعبير، وحين تعجز معانيها عن الوفاء بالمطلوب.
ليس لى من حيلة فى مواجهة التعبير عنك سوى الصمت، فربما يعبر الصمت عما عجز عنه الكلام. وحين يتكلم صمتى، فإنما للتعبير عنى وليس عنك. ما زلت أشعر بالحاجة الملحة فى الحديث إليك، فى الفضفضة بما يعتمل فى نفسى من مشاعر وأحاسيس تعبيراً عن الفقد. نعم يا أمى، مشاعر الفقد تطاردنى أينما ذهبت ووليت وجهى. فأنت ـ يا أمى ـ لست مجرد سيدة ـ شأن كل أم ـ وإنما أنت نبع الحنان الأول الذى كان يفيض علينا حباً، وإن بدت لنا فيه ـ فى حينه ـ جانب من القساوة أو الغلظة، إلا أنها قساوة وغلظة التأديب والتهذيب.
من منا لا يود أن يعود إلى حضن أمه، يتكوم فى حجرها، وهى تمسح على رأسه بأصابعها الرقيقة، فينسل حنانها من بين خصلات شعره، إلى مسام جلده، فيغمر جسده ـ وأعماقه ـ حبها بلا حدود. أنا ممن يودون لو عدت إلى حضن أمى من جديد، إلا أنها قد رحلت عنى إلى العالم الآخر. قلبى يتحرق إليها شوقاً، إلى ملامحها المحفورة فى ملامحى، وها أنا ذا أعانى حرماناً قاسياً من حبها الذى عشته فى كنفها، ونهر الحنان الفياض الذى كنا نغترف منه، ونعب منه عبَّاً، بغير حساب، قد جفت ينابيعه بعد الرحيل. كان يغمرنى ـ دون أن أدرك ـ حبك وحنانك بلا حدود، فيض على فيض بلا غيض، حتى غيبتى عن الوجود.
لن أعدد ما فعلتيه من أجلى، فقد كنت تعملين بغير حساب، ولن أستطيع الوفاء بدينك ما عشت، ولو عشت أبداً. تلك الأيدى الرقيقة التى كانت تمسح على شعرى وخدودى حباً وحناناً، كانت تصفعنى أيضاً حباً وحناناً. وتلك العيون التى كانت ترمقنى بقسوة أحياناً، قسوتها كانت حباً وحناناً، ففى أحايين أخر كانت تحتوينى بعمقها السحيق، وتضمنى إليها رموشها، فأشعر معها بدفء الوجود والتحقق.
كنت أقرأ الفرحة فى عيونك الحبلى بالدموع فى لحظة النجاح، وأشعر بألمى فى جزعك على حين تلم بى الملمات، وتنحط فوق رأسى الهموم. هذا ما وعيته منذ أن أصبح لى وعى يعى، وإدراك يدرك. أما قبل ذلك، عندما حملتى بى، واحتوتنى أحشائك تسعة أشهر، أقتسم معك رزقك كله، ويربطنى بك، ويربطك بى، حبل الحياة. حملتينى، واحتملتينى، وهناً على وهن. عندما انفصلت عنك بالميلاد صرخت، وأنا لا أعى لما صرخت، هل صرخت لانفصالى عن مصدر الحياة والوجود؟ . أم لاستقبالى ـ دونك ـ عسف الحياة؟ . رضعت من صدرك اللبن، ولكنه ليس كأى لبن، إنه لبن الحب، والحنان، والشبع، لبن الحياة.
كنت تنامين نصف نوم، بنصف عين، ونصف عقل، ونصف راحة، من أجل أن تلاحظى يقظتى من نومى، وحركتى وسكنتى، ونفسى الضعيف فى شهيقه وزفيره. يخاصم النوم عينيك حتى أنام، تهدهدى حتى تغفو منى العيون، تظلين رابضة فى مكانك وأنت تلقمينى صدرك، حتى أشبع، وترتوى منى العروق، فأنام فى أحضانك آمناً مطمئناً، بلا خوف ولا وجل. أقضى حاجتى فى حجرك دون تبرم منك ولا ضجر ولا تأفف. تحضرين الماء الفاتر لاستحمامى، وتلفين جسدى الضئيل بالبشكير حتى لا يلفح هواء الغرفة جسدى.
كم كانت سعادتك غامرة حين لكت أول طعام بين لسانى وشدقى، وكم كانت سعادتك حين جلست، وكم كانت سعادتك حين هممت بالوقوف، وكم كانت سعادتك حين مشيت، وكم كانت سعادتك حين سعيت. وكم كانت سعادتك حين كبرت، وكم كانت سعادتك حين طلبت منك الموافقة على زواجى، وحين احتضنت أولادى. كنت تقولين لى ستذكر ما اقول لك، وستذكر ما فعلت من أجلك، ولن تدرك قيمة ما قلت وما فعلت إلا بعد الرحيل، حين تشعر بعدى بالفقد. وها أنا ذا ـ يا أمى ـ أشعر بعدك بالفقد، وأذكر ما قلت لى، وما فعلت من أجلى. وأدرك الآن أننى كنت غليظ القلب، جف المشاعر، بخيل الإحساس. ولكن ذلك بعد فوات الآوان.
كنت أظن أن فى العمر متسع، وأن الوقت أمامى لتعويضك عما فات، حتى فات الوقت وانقضى العمر، وانطوى ما كنت أنتويه. كم هى قبيحة تلك الحياة بغير أم؟ . لقد رحلتى وأخذتى معك أجمل ما فى الحياة، فبرحيلك رحلت كل الأشياء والمعانى الجميلة، ولم يبق لى من جميل فيها سوى ذكراك. الدنيا بعدك قد تغيرت، وتبدلت، ولم يبق لى منها سواك. أفعالك ما زالت لى نبراساً، وأقوالك ما زالت كلمات حية ترن فى أذنى كأنى أسمعك. فأجدنى أقولها لأولادى، فستذكرون ما أقول لكم، ولن تدركوه إلا بعد الرحيل. رحمك الله يا أمى ـ ويا أبى ـ رحمة واسعة.