أخذت نفساً عميقاً من سيجارتي، ونفثته، فكان كثيفاً، أبيض مثل اللبن، خطوطتها البيضاء بصفائها تتداخل وتتشابك كـلوحة رسمها فنان مبدع بكل تفاصيلها خطوط خفيفة متنافرة وخطوط ثقيلة متعانقة، فى ظلمة غرفتى المقبضة راح الدخان يتعالى ويتراقص، كان يتوهج وكأن الضوء ينبعث من داخل بلوراته، أخذت أدقق فى تمايله وتراقصه وكأنه يغيظ الظلمة ويقول لها لن تقتلينى وسأظل حيًا مادامت السيجارة حية وهذا البائس التعيس يعد أنفاسه المتلاحقة منها .
أخذت نفساً أعمق، فـــتذكرتها، تذكرت كل ملامحها -الملائكية – وكل أيامنا ولحظاتنا سوياً، تذكرت ملامستها ليدى وتقبيلها لوجنتى أحسست -وقتها – بشفتيها تطبع قبلة دافئة رقيقة على خدى، تذكرت لون عينيها وكأنى جالس أمام شاطئ من ماء صافى لونه أزرق فاتح "كأصفى ماء قد عرف الكون يوماً" ومنه قد خلق الإله كل شىء، تذكرت رموشها وكأنها فرشاة من حرير يٌقطر بقطرات من الذهب الصافى، تذكرت شعرها طويل كان، اشقر به خصلات حمراء تجعل عقلك وقلبك يسبحان فى خصلاته وتذوب عندما تلمسه بيدك وتشتم رائحته وكأنما جاءت من كون آخر أو من حدود كوننا او شعرها قد اكتسب هذه الحمرة من نجم قد ولد بعد الانفجار العظيم بدقائق، فظل حمرة لون شعرها درجة لن يتخيلها، ولا يصدق أن مثل هذا اللون قد وطئ هذا الكوكب وكان ملك لملاك قد انتسبتها لنفسى الشقية .
أخذت نفسا آخر ولكنه طويل سقطت دمعة من عينى عندما تذكرتها فى آخر مرة رأيتها فيها، أخذت أبكى تدريجيا حتى انهارت نفسى ووجدت دمعة حارقة تسير على خدى وبحيرة من الدموع فى عينى تصف كل بشاعة فى حياتى وألمى، وضعت وجهى بين يدى وضممتهما إلى ركبتى وأخذت أبكى بشراهة.
تذكرت مقابلتها، نظرت لها ومن حولنا تلك الشجيرات الصغيرة التى تصارع الموت وكأنها تصرخ من قلة المياه التى ترويها وتحارب من أجل إنبات غصن واحد مخضر، ويا لحسرة حياتى كل تلك الشجيرات حولها ماء يكفى المحيط ولكن هيهات هيهات، نظرت لها غير مصدق عينى وكأن بى سحر ما وكأن فرعون قد عاد وجمع سحرته ليقى بى سحر حتى أراها هكذا ..
كانت رأسها تعكس أشعة الشمس وكأنها تلمع، لم يتبق سوى بعض الشعيرات فوق عينيها فقد بالت فرشاة الحرير، تحولت عينيها إلى الأسود القاتم وكأنه فى عمق ثقب أسود كئيب حقير لا يمر منه الضوء ، (هزيلة.، ضعيفة.، متعبة) ، لا يكسى عظمها إلا طبقة رقيقة جدا من اللحم و الجلد التى توصف أكثر مما تستر –عظمها، مثلها مثل الشجيرات من حولنا، تصارع من أجل البقاء ..من ..أجـــلـــى !!
رفعت رأسى من بين يدى ونظرت أمامى فإذا دخان سيجارتى يتهيأ على هيئتها
(الجميلة .، الرقيقة)، لم أتمالك نفسى فصرخت، صرخة خرجت ومعها كل كيانى بكل ما فى وجدانى وإحساسى وكأنما قلبى يضخ إلى جسدى الآلام وليست دما (اوجاعاً .، انكسارات .، آلام ..)
ظللت أصرخ طوال الليل أصرخ وأصرخ وأصرخ…ارتجفت يدى فسقطت السيجارة ..
فانطفأت ..وانطفأت معها لهيب نيرانى وأوجاعى ..بل وروحى أيضاً ..ابعدها عنى سرطانها ..وابعدنى عن -الدنيا- صراخى ..وأوجاعى ..وأوجاعي.