حينما أشتم من أحدهم أنه إنسان مادى يعشق الفلوس، ويعيش للفلوس، ويعمل للفلوس، ولا يؤمن إلا بالفلوس، ولا يقيم الناس إلا بالفلوس، ويخسر الناس من أجل الفلوس، ويظلم وينهب من أجل الفلوس أنفر منه وأتجنبه وأبغضه ولا أطيقه، وأفر من صحبته ورؤيته، فرارى من الكلب الأجرب، أيها الماديون عشاق الفلوس لا أحبكم وأبغضكم من كل قلبى.
كم يبلغ المرار مبلغه لو كان أحد أقربائى من هؤلاء الماديين الذين تفرض على القرابة معاشرتهم والجلوس معهم، والحديث إليهم، إن شعورا كبيرا يجتاح نفسى بأن الدنيا ما عادت بخير وأن السماء توشك أن تنقض على الأرض، وأن الناس أوشكوا أن تتحول دنياهم لغابة موحشة يأكل القوى فيها الضعيف ويطغى فيها الكبير على الصغير، بل صارت عال لا اعتراف فيه بالقيم والرحم والفضيلة والأخوة، إن أحدهم يردد دوما: إن كنتم أخوات اتحاسبوا.. وأنا لا أنكر حق الحساب أو حق الحقوق، ولكنى أبغض هذه الكلمة حينما ينطقها مادى من عبدة المال.
لا يليق أبدا بالإنسان الذى كرمه الله أن يرى الدنيا مالا ولا يرى فى الدنيا إلا المال، إن الإنسان خلق لأسمى من ذلك، وفى تربيتى لأبنائى أعلمهم دوما أن العطاء والعطف والاستهانة بالمال من أهم القيم التى يحافظون عليها ويكسون بها أخلاقهم، كما أعظم فى نفوسهم تقديرهم لبعضهم، وأن الأخ أو الأخت كنز عظيم لا يقدر بمال الدنيا كلها.
وهذا كله حتى لا يخرجون إلى الدنيا وهم يعتقدون أن المال هو السند والظهير وفى سبيله يهون كل شىء ويستغنون به عن كل شىء.
بعض هؤلاء يعتقد فى نفسه حينما يظهر بهذا الحرص القمىء على المال، أنه ناصح واعٍ، وربما هناك بعض الماديين من ينظر إليه نفس النظرة، أما أنا فأستقذر صورته وهيأته، وملامح عينيه التى لو رأتك مالا لابتلعتك.
فى الغربة سكنت مع مجموعة من العذاب، وكنت أنا القيم على الشقة، أجمع الإيجار وأدفع الفواتير، وكان معى شاب مصرى، يعمل محاسبًا فى شركة محترمة، ويركب سيارة فارهة، وكان ماديًا يضن بالمال أن يدفعه فى حقه، ويومًا ما طالبته بـ(17) ريال كهرباء، فقال لى: (ممعييش)! ولعلمى أنه مادى وأنه شديد الحرص على المال، أعطيته درسًا فى الأدب والقيم والخلق والإنسانية، لعله يتوب عن حرصه.
وشخص آخر جاءنى يوما وهو حزين كئيب، فقلت له: سلامات ما بك؟ فقال لى: الشركة التى أعمل بها حولت لى عن طريق الخطأ (15.000) ريال، وبعد ساعة جاءتنى رسالة بسحب المبلغ من حسابى لأنه جاء بطريق الخطأ، فقلت له تمام فم المشكلة إذن؟!
قال وتكاد الدموع تفر من عينه: المشكلة أنى شعرت أن هذا المال حقى وصار ملكى حينما وجدته فى حسابى، فقلت له اتق الله يا رجل، أتطمع فيما ليس لك حق فيه، أترجو مالا مما لم تجنه يداك؟
كان الأولى بك أن تسارع إلى الشركة وتعلمهم أن آلافا دخلت إلى حسابك بالخطأ لا أن تسكت وتسر وتسعد وتحلم بامتلاك الحرام.!
وهكذا المادة حينما تسيطر على الإنسان تغلب على عقله ونفسه فتفسد إيمانه وصوابه، وبعضهم يتحول إلى وحش قاس لا يرحم البشر ولا يوقر الخُلق، ولا يعتبر للقيم.
أرأيت إلى هؤلاء التجار الذين لا ضمير لهم وهم يسعون لإنماء مالهم على حساب الشعوب الضعيفة والأمم المغلوبة، أولئك الذين ينتظرهم عقاب الله.. لقد علمنا الإسلام أن نزكى ونتصدق ونفرط فى المال حتى يجعلنا أقوى منه فنسيطر عليه لا أن يسيطر علينا.