مِن مجموعة مسرحيّات تحمل اسم "الساحرة والحكيم" للكاتب صلاح شعير، لأن مبدعنا فارس مضامين الأبجديّة, فقد جهّز صهوة جواده لرحلته بسهوب عقل قارئه, بداية أضاء خط أفق المُتَلقّى بِعنْوَنة مُحيّرة "القلب الجريح".
كأنّه يستدرج القارئ لِشِراك الحيرة, ما بين فكّى تساؤل: هل القلب الجريح مُنتَج بديهى منطقى لقوة أو ضَعَف حَامِله؟ أهو ناتج لِعدم توافر جهاز مناعة ومصدّات ضد الهجوم المتوقّع لفيْض أنهار المشاعر, أم ناتج لقوة فيضان وتدفّق سيول مَشاعر تهاوت أمامها كل الجسور المُنشأة مُسْبَقا؟
ولأن كاتبنا خبير بأوْرِدَة الأسْطر, فهو يعلم أى شِراع تناسب إبحاره بها, ومباشرة يُدير سفينة أبجديته, صَوْب الهدف بلا توانِ, فنجد أسنّة الأحرف ترتفع أعلى مِن دروع الكلمات, فى تَماسِ يُديره ببراعة قبطان يمتلك بوصلة المعاني, وخريطة الجهات الأصليّة لِمَرامى الكَبْسولات البلاغية المُحْتويِة على المواد الفعّالة, المُرَاد بها التأثير على الهرمون الفِكْرى لِعَقل المُتلَقّي, لإيقاظِه مِن سُبَاته, كجَرْعة تنشيطيّة لممارسة رياضته المُفْتَرَض تأديته لها بإنتظام, للحِفاظ على رشاقة تفكيره.
حيث سيادة القبطان , أو كاتبنا عَاجَل مُتَلقّيه بدوّامة فِكرية, ما يكاد يدور بإتّجاه يَرْفَع رَايَة الدين, حتى يَجد الموجة تجذبة بإتّجاه يَرْفَع رَايَة العِلْم, ثم يتركه هنيهة ليتوازن فيستطيع السباحة لشاطىء يقين, على أمواج الحوار التالي:
جابر( بيقين): خطورة القلب الصناعى , أنه يجعل مِن الإنسان مجرد آله, وقد تتغيّر أفكاره وسلوكيّاته.
سلمى (بدهشة): لن يتغيّر شيء, لأن العقل كما هو فى جسده.
جابر (بثقة) : القلب هو كل شيء فى الإنسان, إذا صَلحَ..صلح الجَسد كله, وإذا فَسَد..فَسَد الجَسَد كله.
سلمى (بتصميم): العقل سيرشده إلى الحقيقة.
جابر (بِحِدّة): الإنسان بدون قلبه الأصلى لا قيمة له, سوف يتحول إلى شخص آخر.
مارك(بتَهَكّم): كيف أيها العارِف.
جابر(بثبات): سوف يفقد البصيرة.
مارك(بضجر): القلب آلة ميكانيكيّة هائلة لضخ الدم.
جابر(بثقة): أنا أكلمك بمنطق دينى.
مارك( بتحدّى) وأنا أكلّمك بمنطق عِلمى.
هكذا بَرَع كاتبنا فى تشكيل سبائك أفكاره المنصهرة فى بوتقة عقله, وزخرف بها أبجديّة أبطاله, التى أبدعت فتيات حروفها فى أداء لوحات رشيقة المعنى, كفراشات اليقين يُفَك أسْرها مِن شرانق الشَك, فتلهو بخيوط الهواء, صادحةً بِلَحْن أجنحتها, تكاد أنْغامها تُضيء ولَوْ لَم يمْسَسها وَتَر, وكاتبنا هو المايسترو المحترف الذى يهدينا أبرع ألحان فريقه بمجرّد إشارات, وكأنّهم هم المبدعون, والحقيقة أن فَنَار عَصَاه, اليَقِظ على إبتسامة الشمس, هو الذى يدعونا إلى سَبيلٍ التفَكّر بالحِكْمَة والنقاش الحَسِن.
حاول كاتبنا ألّا تتبعثر ملامحه, فتاتاً بأطباق الآراء, لكن ملامح بعض العبارات الموسومة بأسلوبِه, وَشَت بمخبئه عن سابق نيّة, فنجِده تارة على أريكة بدوّار مُخ الشيخ (جابر), يدْعُ إِلَى سَبِيلِ المَنْطِق الدّينى بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَيجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ, فى محاولة الإنتصار ليقينه الديني, وفجأة تَطُل دهشتنا مِن شِرفة أعيننا, حين نجدْه مُحاضَرا بِغرفة عمليات مخ د. مارك, مُعْرِضا عن المُتديّنين, ولا حتى يقول لهم سلاما, بل ترتدى الحروف دروع الأشواك لتضمن نهاية حاسمة لصالح يقينه العِلْمي.
وفى النهاية يَنثر كاتبنا حِفنة ضوء, فإذا هى فِكرة, تَلْقَفُ مَا كانوا يَعتقدون جميعا, وطَفَت على صفحة المياة الصافية, الفِكرة الأقرب إلى سطح العقول المسافرة لأبعد فضاء, بيقينيّة المَنْطق الديني, حينئذ ..وَدّ كثيرٌ مِن المُناقشين لو يردّونهم عن اليابسة التى لامسوها, فكان كاتبنا لهم بالمرصاد غير فظّا ولكن ببلاغة مَنطق, وطافيا بمنطاد الدين مَستخدِما مَضخّة العِلم, فى مُناورة بانورامية بلاغيّة , متفاديا ببدايتها, الإنحيازات الفكرية المُنْبِئة بأضوائها الكاشفة عن صريح آرائه, لكنه بالنهاية كمخرج العَرْض العظيم, خَرج على خَشَبة مَسْرحه مُحيّيا جمهوره, ليحصد تصفيق مُسْتَحَق.