وضع النادل " صينية الشاي " أمام " فتوح " ثم بصوت يموج بغضب : مرّت خمسة أيام , لم تدفع حسابك , صاحب القهوة يحمّلني بثمن مشروباتك التي لا تملّ من طلبها طوال اليوم .
لم يكن الحديث بمنأى عن بعض الزبائن , بتأفف قالت سيدة : " بلاش شُحّ , اعط الرجل ثمن ما تطفح " علّها كانت تمزح معه علناً , لكنها أسرّت بما تُضمر نفسها .
تلك المرة الأولى التي يخلع فيها " فتوح " عباءة الأدب , يلقيها في وجوه المارة , فقد وقف أمام " محلّه " مُعلناً للكافة : أنا عندي " فلوس " تسدّ عين الشمس , مال إن وقفت عليه بقدمي ألمس السماء بيدي هاتين , لوّح بقبضته بوجوه الجميع , جذب صوته الجهوري أنظار المارة , تدخّل بعض التجار المجاورين لتهدئته , توبيخ النادل , تبرير تصرفه : "عم رزق " لا يقصد أي إهانة, , وعينا على الدنيا بعالم التجارة بهذا الشارع و هو قائم به.
تطايرت بقايا العقل , فلم يستجب " فتوح " لأحد , شق طريقة سريعاً بين الجمع , مصوّب العينين على غريمه , ساعدته قامته القصيرة , قبيل أن يفيق أحد من ذهوله , كانت يده أسبق من الجميع , هوت بقوة على وجه " رزق " المسكين , أعقب الصفعة سيل من شتائم فرّت من قبحها نسوة كن يشاهدن الحدث من قريب.
دكان صغير , بعطفة تقبع بدورها بنهاية زقاق طويل , يعج بمحلات تجارية على جانبيه, هناك أقام نشاطه الأول , بضاعة قليلة تناثرت على أرفف المحل , مكتب خشبي راعى أن يكون قصير الأرجل حتى يستطيع أن يستوعب جسده الضئيل , بجواره كرسي أصغر لمن يستضيفه إن فعل , فيجلس الوافد كتلميذ أمام مُعلّمه , تلك كانت دنياه التي آمن أنها حلبة لصراع طويل سوف يخوضه جبراً .
التاسعة صبيحة كل يوم , على مدار الأسبوع , تراه يستقر خلف مكتبه , يرقب المارة من وراء زجاج " نظارته " العتيقة , يشيّع طلاب المدارس بسخرية ترتسم على شفتيه , يتراقص أمام عينيه مستقبل غائم لهم جميعاً , يتذكّر ما آل إليه حاله اليوم , بينما يرفل أصحابه في بؤس مقيم , فيمصمص شفتيه الزرقاويين , يقطع عليه الرؤية نادل مسن : صباح الخير يا حج " فتوح" أجيب لك الشاي ؟
لطالما وجد لقب " الحاج " هوى بنفسه , يستريح إليه , تطيب روحه لذلك اللقب , رغم أن زوجته و جدته دفعتاه دفعاّ لزيارة البيت الحرام لسنوات كثيرة , لكنه أبى و أعرض , بحجة أن الحين لم يأتي بعد , بينما السبب الحقيقي الذي يعلمه الجميع و يسكتون عنه , بُخل مقيم بين جوانحه .. وضع " رزق " كوب الشاي : تؤمر بحاجة تاني يا عم الحاج ؟
السكر ؟ أربعة ملاعق كما تُحب , شاي ثقيل كالحبر كما تميل نفسك إليه مولياً ظهرا , هامساً لنفسه : يا رب تفتكر الحساب آخر الليل , لا تفعل فعلتك و أتحمل أنا وزر ذنب نسيانك أو تناسيك.
لا يعيب المرء ما رُزء من صفات يراها عيوباً , فلربما نقص هنا يكون سبباً في مزيّة يفتقرها آخرون , عبارات إنشائية يُلقيها على أسماع من يسوقه قدره للمرور بين يديه طلباً لمصلحة أو سعياً وراء ضائقة يرجو على يديه زوالها ... فرصة يقتنصها " فتوح " من بين براثن الزمن , دقائق يتعملق خلالها حتى يكاد يسد الأفق ..
نشأة متواضعة كأبناء جيله و ما تلاه من أجيال عديدة , أحاط به الفقر المدقع كسوار يعانق جيد حسناء.. لأن الفاقة لا تأتي وحدها , فقد صحبت معها وهن بالجسم , قدرة محدودة على التحصيل العلمي , فهجر الدراسة بزعم أن الحياة مدرسة كبيرة و أن " العلام في الرأس و ليس في الكراس " عبارته الخالدة التي كان يشنّف بها آذاننا , يقولها بفخر , يتيه بها على أقرانه من المتعلمين الذين لم يخرجوا من الحياة الدنيا إلاّ بورقة رسمية لا تُسمن و لا تٌغني من جوع , بعضهم ظفر بوظيفة زادت من شقائهم المادي .
سنوات تزيد على العشرين , مذ أن وطأت قدماه عالم التجارة , صبيّ قضى سنوات حياته الأولى يتقلّب بين المهن , أرصفة الشارع , حتى وجد ضالته بمحل يقع على ناصية شارع تجاري , صاحبه شيخ متصابي , مولع بالنساء , ينظرهن من بعيد , فإن اشتم رائحة إمرأة , برقت عيناه , تحرّكت أيديه كهوائي " رادار " يلتقط أدنى اشارة غادية إليه , سعياً وراء لمسة هنا أو وكزة لكتف صبية هناك.
تعلّم" فتوح " على يديه أصول المهنة و أسرار تجارته , حتى شربها , أيقن أن استقلاله بنفسه قد حان , فنادى بين رفاقه و أهله أن الدنيا قد غبنته كثيراً , فأسرعوا إليه مساعدة كلُّ بما يقدر من مال , كما خلعت من أجله نسوة من أهله حُليّهن .. كلما أقبل عليه المال , كان يصرخ بعبارة واحدة : ذاك دين برقبتي إلى يوم الدين ...
على أن هذا اليوم لم يحلُّ ابداً , فقد مات الجميع , هلك من أقرضه المال , يأست النسوة من عودة حُليّهن فماتت بعضهن كمداً , أخريات عزفن عن الحياة الدنيا , و لأن الشمس لا تستقر ابداً بكبد السماء , فلها وقت معلوم تأفُل فيه , فقد غرُب نهاره سريعاً , عاد صبياً يتنقل بين مهن كثيرة , يصحب معه شيخوخته, و سُخط على الحياة و الناس أجمعين .