إن الانتقال من بلدٍ لآخر لهو اِنتقال للنفس من حال إلى حالٍ أفضل، لا سيَّما إن كانت تلك البلاد مرسى ربيع يستوقف المرء منا لأخذ جرعات من الراحةِ المسلوبة من أنفاسه، وحين تترك ما أَلَمَّ بك فى بلاد تركتها، فإن المرء إن سافرت معه أحزانه وهمومه، فهو لا يزال مقيمٌ لــم يبرحِ.
إننى لأعجب لسؤال: لماذا تحب تلك البلد، ودائمــاً تردد اسمها على لسانك ؟! فأَى بــلاد تلك التى تجعل رُوحك تُرفرف حين تراهـــا عَينيك من بعد فراق! أى بلد تلك التى يوجــعُك فراقُهــا ووحشتها! أى بلادٍ تلك التى تهواها وتهواكَ!
إنـنى لا أتحدثُ عن بلد مثلما بقية البلاد، فبلدة كانت ولا تزال فى عيناى شمساً بعد ليل طال، ونوراً بعد ظلمةٍ مدلهمــةٍ، وأنفــــاس طيبــة بعد انقباض الصـــدر.
البلاد التى تجعلك ترى جمالها وحُسنها لا قُبحها ؛ وإن كان فيها القبح، لاطمئنانك فيها ؛ وإن كان فيها الخوف، لمشاعرك فيها ؛ فلم يخلو فيها الحس، بلد تجعلك تـــرى مميزاتها وتوارى عنكَ عُيوبها ؛ هوَ الجمـالُ فى ذاتهِ.
لقد تزودت فيـــها يوماً تِلْو الآخر، علماً وخلقاً رفيعاً أنعمُ به، لا زالت تُرسل رونقها من أحبابى وأصدقائى، لطالما جَمعتنى بهم، وإن غابوا عن العيون، فما أجمل الذكرى!