لا أخفيكم سرًا فلأول مرة تتوقف كلماتى، ويجف قلمى، حتى وأننى أقاوم لالتقاط أنفاسى، فأنا لا أعانى من شىء بعينه، لكنى محطمة كليًا، أرى ما لا أستطيع وصفه، وأصف ما لم يعد بإمكانى رؤيته، وربما توقفت آلة الزمن لدى عند نقطة بعينها، ترى ما الذى حدث؟ ما الذى جعل ذاكرتى لا تتخطى يوما بعينه، أو قل لحظًة بعينها، أو حتى جملًة بكلماتها وحروفها، وأنا التى لم توقنى يومًا أحداث الحياة، ولم تستطع النيل مني، وقد تعلمت أن استقبل الحدث راضية، مرفوعة الرأس، وبقوة انتظر الذى يليه، لا أعلم أين هى الإجابة!!!
أحيانًا يقع ما لم ننتظره، رغم تنبؤنا بوقوعه، لكن لم نشعر بمدى قرب وقوع هذا الحدث، كأن يخبرك الطبيب بمرض أحدهم فجأة، أو قل إن أبشع هذه المفاجآت أن يهمس أحدهم فى أذنيك "رحم الله فلان"!!! لا أقصد الاعتراض عما حدث، ولكن أعنى هول المفاجأة؛ أو قل صدمة المصيبة، وتصبح تلك الجملة التى لطالما رددناها؛ أحيانا بحس مرهف، وأخرى بمجاملة لطيفة، تصبح بين لحظة واحدة، أسيرًا لحروفها، والتى تتجمع فى ذهنك وكأنها قفص حديدى يضغط على جسدك كاملًا، مبتدأ بقلبك، ضغطة تكاد أن تشعر بعدها بآلام انشطار جسدك نصفين دون قطرة دماء أو سيف، أو حتى دون خدشة من سكين!!!
ومع ذلك تأبى دموع عينك أن تتساقط، فأنت لم تصدق ما حدث، وتشعر بأن هناك شيئا لم يكتمل، وبأنك فى كابوس لم تتجاوزه أو تستيقظ منه بعد، وتبدأ الأيام تظهر مدى ثقلها، والمواقف تبرهن عدم وجودها - رغم كثرتها - وتصبح أسيرا لذلك الحدث وتلك اللحظة ومرتهنا لها، وأمام كل هذه الصلابة التى حاولت أن تتظاهر بها عيناك، كان لجسدك رد آخر؛ حيث رفض الاستجابة لهذه الصلابة، ولم تدر إلا وأنت تستيقظ بين يدى أحدهم، ولا تعلم كيف للساعات ألا تمر، كيف بتلك الليلة أن تطول حتى هذا الحد، أنت تنظر بلوعة وغصة لم تعلم مدى مرها من قبل! تنتظر بزوغ الفجر، حتى تجرى بلهفة لترى بأم عينيك وتتيقن حقيقة الأمر!!!
ويسيطر عليك أفكارا متناثرة وشعورًا لا إرادى؛ لن تستطيع وصفه بكلمة بعينها؛ فهو وسط ما بين الحياة والموت، ما بين الغرق والنجاة، هو أشبه ما يكون صدمة من قطار بكامل قوته، وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة، لكنك لم تبلغها، ثم تشعر وكأنك وحيدا!!! وحيدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وحيدًا رغم كثرة من حولك، مثقل لا شىء يشغلك سوى ذاك الحدث، لم تنتبه لهذا الجمع، ولم تعلم من كل هؤلاء، لك وجهة واحدة، لن تبرح حتى تبلغها، ومع ذلك تجد أنك لم تصل إليها، وبين طرفة عين وانتباهها، تجد نفسك قد ودعت قلبك، وأصبحت واهن الجسد، جسد بلا روح، عالق ما بين السماء والأرض لا أنت خفيف فتطير، ولا ثقيل فتجذبك الأرض...
ثم تجد نفسك بعدها بحاجة لعناق طويل من أحدهم، أو عناق هذا الشخص ذاته، ولا تجد سوى مجرد كلمات عابرة، قد تزيد من وهنك وضعفك، بل ولم تكتف بذلك، إلا وأنك تصبح - رغم صغرك - أنت الحضن الدافئ لجميعهم، واليد التى تربت على كتفهم، والكلمات التى تلملم شتاتهم، ولكنك حقا فقدت نفسك مع استشهاد أحدهم، ووداعه المفاجئ، وتبدأ تعيش أيامك المتشابهة وكأنها يوما واحدًا، نعم أقصد ذاك اليوم بعينه، وتعيش فقط داخل بوتقة ذكرياتك معه، وأحداث ما قبل ذلك اليوم، تعيش لا ميتًا ولا حيًا، ولا أنت تمتلك نعمة النسيان، وتتعايش مع ذكرياتك أو قل بقايا ما جمعتكما الذكريات معا، وكلما استعصت عليك الذكرى، تبدأ بترتيب أحداث ذلك اليوم ثانية، وتتمسك بكل تفاصيله، فتضعف أى محاولة من ذكرياتك للتهرب منك.
وتبدأ فى الهروب من هذا العالم وما يحتويه، بالخلود إلى النوم، لعلك تجد مطلبك فى رؤية صادقة، ويصبح عالم الرؤى والأحلام، هو عالمك الذى تعيشه، حتى وأنك تعتقد أنه عالمك الحقيقي!!! وأن فرضية الواقع ما هى إلا خيال فى خيال، فتنسج لنفسك واقعا فى أحلامك، ترى فيه من لم تستطع رؤيته فى الواقع!!! نعم... هو بعينه وتحاوره أيضًا، ويحدث هنا فقط كل ما حرمت منه فيما يسمونه الواقع.
ترتاح نفسك لتلك الرؤى؛ التى وإن غابت عنك يومًا تزيدك ألمًا ووجعًا، وتتوه فى حضرت الجميع، هؤلاء الذين لا تعلم كينونتهم، ولم تستطع النظر لوجه أحدهم، رغم كثرة عباراتهم المواسية، ورغم أنها مواساة؛ إلا وأنك لأول مرة تشعر بمعانيها الحقيقية، تلك المعانى التى لها وجه خفى قاتل، ذاك الوجه الذى ينظر إليك وحدك، وكل نظرة منه ترميك بسهم قاتل، والذى فرض عليك ارتداء نظارة سوداء!
فيبدأ جوهر الأشياء على إثرها يأخذ شكلًا مغايرًا لذلك الذى اعتدته من قبل، حتى وأن ملامحك نفسها تتغير كلية، وإن نظرت إلى نفسك صدفة بالمرآة؛ فإنك ترى شخصية مختلفة عنك تماما، ببشرة شاحبة وعينان شاردتان، لم ترى أمامها سوى ذلك الوجه الذى لم تعتقد أبدا أن تحرم من رؤيته يوما، حتى وأنها ما ترى فى وجوه الجميع سوى ملامح فقيدها، والذى هو الأعز لديها، وتعتقد أن ثغرك لم تذره البسمة ولو صدفة مطلقا، بعدما كانت البسمة عنوانا له، وأذناك لم تسمع إلا صوتا واحدا فقط، كما وأصبح عقلك شبه متوقفا عند هذا اليوم، ولسانك عاجزا عن محادثة أحدهم، وتشعر بأنك وإن نطقت، فتنطق بكلمات غير مرتبة، بل وتصبح مجرد كلمات مبعثرة.
هكذا وبدون سابق إنذار يتحول بعضنا رغما عنه فى أفعاله وأقواله من غير ما قصد، وبهذه الطريقة تنسج الاحزان نسيجها على قلبه.. فاللهم ارحم كل عزيز لدينا سكن القبور وفارق الأهل والدور.