البخل من المضامين التى فرضت نفسها على الأدب العالمى، وقد غلب على الأدباء تناوله كنزعة مأساوية، أما الجاحظ فى تناوله للبخل فى كتاب البخلاء جعل منه مادة خصبة للتهكم والسخرية والتندر والفكاهة.
يتحدث الجاحظ عن محفوظ النقاش الذى صحبه فى ليلة ممطرة من المسجد الجامع فشدد على الجاحظ أن يبيت فى منزله القريب من المسجد، وذكر له أن لديه أجود اللبن والتمر؛ فوافقه الجاحظ وذهب معه وصدق الرجل، حيث أحضر للجاحظ إناء به لبن وطبق تمر.
فلما مد يده ليأكل قال محفوظ للجاحظ: أنت رجل طعنت فى السن، وقد أصابك الفالج وهو نوع من الشلل وأنت فى الأصل لست بصاحب عشاء. فإن شربت اللبن ولم تشبع منه فإنك تكون لا آكلا ولا تاركا، وحرشت طباعك، ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك، وإن بالغت فى الأكل بتنا فى ليلة سوء من الاهتمام بأمرك.
وإنما قلت لك هذا الكلام لئلا تقول غدا: كان وكان، والله قد وقعت بين نابى أسد، لأنى لو لم أجئك به وقد ذكرته لك، قلت: بخل به وإن جئت به ولم أحذرك منه، قلت لم يشفق ولم ينصح، فقد برئت إليك من الأمرين جميعا. وأن شئت فأكلة وموته، وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة.
يقول الجاحظ ما ضحكت قط كضحكى تلك الليلة، وقد أكلت الطعام جميعا فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فيما أظن . ونأخذ من هذه الحكاية نصيحة طبية وهى لا تختم ليلتك إلا وأنت ضاحكا ومستبشرا حتى لا تتحول العصارة المعدية إلى عصارة سامة مع التوتر والقلق.