كتبت مقالة بعنوان "الآخرون هم الجحيم" نشرت بجريدة القاهرة فى أول يناير 2019 – عبرت فيها عما نعانيه من الآخرين، قلت أنهم سبب تفشى حالة الثأر فى مصر، خاصة فى الأرياف، فهم يلحون على صاحب الثأر لكى يأخذه، ولولاهم ما فكر فى أخذه. وأنهم سبب تفاقم حالة الأمراض النفسية لسخريتهم من مرضاها.
كنتُ أعانى من قسوة بعض الزملاء الأدباء معي، فزميل أعرفه منذ سنوات طويلة، ألغى صداقتى فى الفيسبوك لأن أتيليه الإسكندرية رشحنى لجائزة الدولة، وآخر دائم الهجوم على كتاباتى، فقد اثنى استاذ جامعى على طريقتى فى كتابة رواية يهود الإسكندرية، فقال له: أعرف مصطفى نصر، يحكى وخلاص. ولامنى لأننى لا أعلق على انجازاته وبطولاته فى عالم الأدب، فقلت له: إننى أنشر مقالات كثيرة فى الفيس بوك، يحتفى بها الكثير، وأنت لم تعلق عليها، قال بكل بساطة: أصل ما بحبش مقالاتك. وقلت له لدى عدد كبير من الأعمال فى حاجة لناشر لها، فأجاب ومن أدراك أنها ستحقق نجاحا؟!
أحسست بأسى وحزن شديدين، خاصة أن البعض أرجع نجاح روايتى يهود الإسكندرية وتكرار طبعاتها، للموضوع الذى تتناوله الرواية، وليس لمهارتى فى الكتابة. والبعض آذانى فى الكلام دون مراعاة لشعوري، رغم أنى ناصرته وأيدته وقدمت إليه الكثير. حتى ضقت بكل شيء، وكنت أغنى دائما وقتها، أغنية محمد عبد الوهاب، " أشكى لمين الهوى والكل عزالى"
وبينما أنا فى هذه الظروف القاسية اتصل بى شاعر ومثقف كبير- له أيادى بيضاء على أدباء الإسكندرية – خاصة الشعراء – وطلب منى رواية ليقدمها لدار المعارف، فأرسلت إليه روايتى الأخيرة " دفء المرايا " التى نشرت فى يناير 2019. ( كنتُ أود أن أذكر اسمه، لكنه رفض ذلك ) فأفقت مما أنا فيه، وقلت لنفسي، كم أنت جاحد وناكر لجميل ربنا معك. فالآخرون ليسوا سيئين لهذه الدرجة. تذكرت المرحوم جمال الغيطانى الذى أعطيته روايتى الهماميل مكتوبة بالآلة الكاتبة ليقرأها ويقول لى رأيه فيها. فأرسلها إلى مصطفى نبيل – لينشرها فى روايات الهلال دون أن أطلب منه ذلك، أو حتى يخبرنى بما سيفعل، ونشرتْ فى فبراير 1988، وقد اختصر جمال الغيطانى المسافة لي، ووفر على جهد سنوات طوال، دون مصلحة، لمجرد أن اقتنع بما أكتب.
وتذكرت المرحوم عبد الوهاب الأسوانى الذى كان يذكرنى بالخير فى كل اجتماع يجتمعه، وباحثة من أسوان أعدت عنه رسالة ماجستير، فرشحنى لها لكى تكون رسالة الدكتوراة عن أعمالي، وارسلت إلى أقاربها - الذين يسكنون الإسكندرية - فأخذوا كتبى وارسلوها إليها.
لا، هناك آخرين على درجة عالية من العطاء والوفاء. فقد اضطررت للخروج على المعاش قبل الستين بحوالى عشر سنين، فلم أحصل على " المتغير "، وهو فى شركتنا عالى وكبير - حوافز وبدلات ومزايا أخرى كثيرة - فكان معاشى قليل وعائد البنك - عن المبلغ الذى حصلت عليه نظير الخروج على المعاش - لا يكفى لأيام قليلة، فأضطر لأن أسحب من رصيدى فى البنك. فإذ بناس لا أعرفهم، يرفعون قضايا مطالبين بحقهم فى " المتغير" ويحكم القاضى لهم، ويطبق هذا على كل الحالات المشابهة، فيزداد معاشى ثلاث مرات أحدهم بمبلغ كبير، فتغيرت حياتي.
سبحان الله، جنود مجندة تقدم خدماتها للغير دون مقابل.
تذكرت ما حكاه لى ابني، عندما سافر إلى القاهرة مع أصدقائه وهو فى الكلية، وسألوا قاهرى عن عنوان، فدلهم عليه، ثم اسرع نحوهم قائلا: " عايزين فلوس؟ " لم يكن عرضه كعزومة المراكبية، وإنما ألح راغبا فعلا فى مساعدة غرباء.
وتذكرت عندما جلست فى محل كشرى فى القاهرة- أيام كان الكشرى القاهرى لا يصنع فى المحلات السكندرية - وجاء رجل يرتدى بذلة أنيقة فاتحة اللون، وجلس أمامى على المائدة، وقد ضغطت على زجاجة " الدقة "، فتطاير ما بها من سائل ولوث بذلة الرجل، فشعرت بالخجل والأسى، وتوقعت أن يصيح ويتشاجر معي، لكنه لم يفعل شيئا وقال بصوت خافت وفى هدوء: "مش كده" وانشغل بتنظيف بذلته.
كم أنا جاحد بعطاء ربنا عندما ظننت أن الآخرين كلهم سيئين. فالمواطن العادى يستطيع مثلا أن يشترى اليوم من أى صيدلية، دواءً سحريا بمبلغ ضئيل، كان لويس الرابع عشر على استعداد لأن يتنازل عن نصف فرنسا مقابل الحصول عليه ليريحه من آلام مرضه.
ونتمتع الآن بمصباح أديسون الكهربائى ونستخدم التليفونات، نطمئن على أولادنا الذين يقضون أوقاتهم خارج البيت، ونحن مستلقيين على أسرتنا فى حجرات النوم. ونشاهد التليفزيون والكمبيوتر، متع عظيمة لم يسعد بها هارون الرشيد ولا أى ملك عظيم آخر، فالأفلام التى تصور هذه العصور، تجعل رجلين شديدين يحملان مروحتين كبيرتين لتهويا على جلالة الملك المعظم، وحتما هاتان المروحتان لا تجلبان لجلالته سوى القليل من الهواء النقي. بينما نستمتع الآن بالمراوح الكهربائية واجهزة التكييف فى الصيف والشتاء.
هناك جنود مجندة لخدمة الآخرين، يقدمون إليك الخير ولا يطلبون مقابل هذا.