قديما كنت أتساءل عن سبب تغيير الأشخاص الأقوياء لقراراتهم، خاصة المرتبطة بمشاعرهم، فأحيانًا يتخذ الإنسان قرارًا بأن يهب حياته للعمل، أو للعلم، أو للخير، أو لغيرها من مناحى الحياة، ثم تجده يشعر بمشاعر يصفها بالأنانية؛ لأنها تخصه وحده، لن يستفيد منها غيرها، مثل مشاعر الحب مثلاً، فتجده يقع فى مصيدة المشاعر، رغم أنه كان متيقنًا أن هذا القرار أبعد ما يكون عنه.
وأحيانا أخرى يحدث صدام بين شخصين، فيقُرر أحدهما بألا عودة إلى هذا الشخص؛ بسبب قسوة ما لاقاه وما عاناه معه، ويكون هذا القرار مبنيًا على أسانيد قوية، وحُجج منطقية، ولكن رغم ذلك، فى لحظة ما تبدأ ثورته فى الهدوء، وقرار فى التراجع.
وفى بعض الأحيان يُقرر الإنسان المصدوم فى أعز وأغلى الناس لديه ترك الجمل بما حمل، وهو مؤمن أن هؤلاء لا يستحقونه، وأنه لا بد أن يبتعد عنهم، ويبدأ حياته من جديد، بعيدًا عن كل شيء يُذكره بالماضى، وفجأة يتراجع ويعود.
السؤال الآن لماذا يتراجع هؤلاء عن قراراتهم، أو على الأقل، لماذا يُعيدون التفكير فى الموضوع، ويُعيدون حساباتهم، رغم أن قراراتهم كانت مبنية على أسس سليمة، وحُجج منطقية، ودراسة متأنية.
الإجابة، قالها لى والدى، تحديدًا فى أواخر عام 1999م، فى حوار دار بينى وبينه، حيث كنا نتحدث عن المشاعر، والسبب فى أن البنات يقعن فى الحب، وهن ما زلن طالبات فى الكلية، والمُفترض أن شُغلهن الشاغل هو الدراسة، وتحقيق الذات، فأجابنى والدى بجملة، كانت وقتها صعبة على فهمها، ولكنه ترجمها لى على الفور، وهى: "الزن على الودان أمرّ من السحر"، فقد أضحكتنى كثيرًا، ولم أعيها وقتها، حيث كنت فى السادسة عشرة من عمرى، وهذه العبارات كانت غريبة على مسامعى، وعندما فسرها لى، لم أقتنع بكلامه على الإطلاق، فأى شىء يُمكن أن يُؤثر على قرارات أو عزيمة الإنسان، ولكن مع مرور الأيام والسنوات والمواقف، تيقنت أن من أطلق هذه العبارة، كان شخصًا عبقريًا، بل ومُجربًا وصاحب خبرة.
فبالفعل، من يُصر على أن يقترب منك، ويُعيرك اهتمامه، ويُشعرك بوجوده، تنجذب إليه لا إراديًا، حتى لو كنت مُتخذًا قرارك بأن تعيش وحدك، غير عابئًا بمن حولك، ومن يُلح فى مراضاتك، ويقبل شروطك، ويُشعرك بقدْرك، ويعترف بخطئه فى حقك، يجعل التسامح يقترب من قلبك، وتختلف نظرتك إليه تدريجيًا، لدرجة أن الغضب يهدأ بداخلك رُويدًا رُويدًا، حتى يتلاشى مع الأيام.
ومن يُصر على وجودك فى حياته، ويرفض ابتعادك عنه، ويُؤكد لك بالبراهين والأدلة أن حياته مُرتبطة بحياتك، يجعلك تتخلى عن فكرة الهجر والابتعاد والغياب إلى الأبد، فالإلحاح لا يعنى أن الشخص ضعيف، أو مُفتقر للحجة، ولكنه دليل على ثقته فى نفسه، وإيمانه بقضيته، وتمسكه بأشخاص، متيقنا أنه لن يُعوضهم، والأهم من ذلك أنه يُؤكد مدى قُدرته على التفرقة بين الغثِّ والثمين، وأنه غير مُستعد للتفريط فى الأشخاص نادرى الوجود، لذا يُلح حتى يصل إلى أهدافه النبيلة.
والأحرى من ذلك أنه يؤكد لمن أمامه أنه قد تغير للأفضل، وأنه أعاد حساباته، وأقر بأخطائه؛ لأنه بشر، ولا يعيب الإنسان أن يُخطئ أو حتى أن يُكرر الخطأ، ولكن ما يعيبه هو إنكاره لهذا الخطأ، واستمرائه للسلوك الخاطئ، وعدم اعترافه به، وعدم مُحاولاته لإصلاحه.
لذا، فحقا من يُلح فى كسب المشاعر، واستعادة الأشخاص النادرين، دون أن يكل أو يمل أو يتسرب اليأس إلى قلبه، هو من يستحق الاحترام وعن جدارة.