فى إحدى قرى الريف المصرى وبالتحديد فى قرية دنشواى مركز الشهداء بمحافظة المنوفية كتب التاريخ إحدى صفحاته المضيئة بمداد من دماء رجال هذه القرية الخالدة وذلك عندما صب اللورد كرومر المعتمد البريطانى فى مصر جام غضبه على الحركة الوطنية المتصاعدة فى مصر ضد الاحتلال البريطانى، ودفعت القرية المنكوبة الثمن حيث تفنن كرومر فى إرهاب المصريين بما أقدم عليه من أفعال شنيعة يندى لها جبين البشرية، وأساءت إلى سمعة بريطانيا العظمى التى تدعى الحضارة والمدنية .
تعود الأحداث إلى خمسة من الضباط الانجليز الذين أرادوا اللهو وصيد الحمام بالقرب من قرية دنشواى حيث أخذوا يطلقون الرصاص على الحمام على جانبى الطريق الزراعى، وانفصل منهم اثنان إلى داخل القرية وأطلقوا الرصاص على الحمام وسط الحقول ولم يستمعا إلى الخفير المرافق لهما بالابتعاد عن أجران القمح، ولم يلتفتا لصيحات الأهالى بالخروج من الحقول وأصاب طلق نارى إحدى النساء، كما طاشت شظية فأشعلت النيران فى جرن قمح وهب الأهالى لنجدة المرأة وإطفاء النيران قبل أن يمتد لهيبها إلى بقية الأجران .
ظن الضابطان أن الأهالى يهاجمونهما فأطلقا النيران عشوائيا عليهم وأسرع بقية الضباط لنجدة صاحبيهما، وجن الأهالى وهاجموا الضباط الانجليز بالعصى وقبض الخفراء عليهم وأخذوا منهم أسلحتهم، لكن اثنين منهما فرا تاركين ميدان الواقعة فسقط أحدهما اعياء من ضربة شمس وتركه زميله الذى أخذ يعدو حتى وصل إلى المعسكر وصاح بالجنود لينقذوا زملاءهم فركضوا إلى حيث سقط زميلهم ليجدوا الأهالى ملتفة حوله وأحدهم يسقيه فقبضوا عليهم بينما قتلوا ساقيه ظنا منهم أنه قاتله رغم وفاته متأثرا بضربة شمس .
وفى اليوم التالى جاء رد الفعل الغاشم من سلطات الاحتلال حيث ألقت القبض على عشرات الفلاحين، وأحيلوا إلى المحاكمة بتهمة القتل العمد وتشكلت محكمة خاصة برئاسة بطرس باشا غالى والتى أصدرت أحكاما غير قابلة للطعن بإعدام أربعة متهمين والأشغال المؤبدة على اثنين و15 سنة لشخص واحد وسبع سنوات على 6 آخرين والجلد 50 جلدة على 8 من أهل القرية .
ورفع كرومر راية الدم سريعا حيث أمر بتنفيذ الأحكام غداة المحاكمة الجائرة وفى القرية نفسها على مرأى ومسمع من أهالى المتهمين، وكانوا يعلقون أحد المحكوم عليهم بالإعدام أمام أنظار أهله وذويه إلى أن يجلدوا اثنين من المحكوم عليهم بالجلد زيادة فى التشفى والانتقام .
وقد نظم شاعر النيل حافظ ابراهيم قصيدة عن حادث دنشواى قال فيها :
أيها القائمون بالأمر فينا ... هل نسيتم ولاءنا والودادا
خفضوا جيشكم وناموا هنيئا ... وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا
إنما نحن والحمام سواء ... لم تغادر أطواقنا الجيادا
أما الوطنيين المصريين فقد كان الزعيم مصطفى كامل وقتها فى باريس يعالج من مرض عضال ورغم ذلك فقد هاله ما حدث لبنى وطنه، وهاجم انجلترا فى الصحف الفرنسية والعالمية منددا بسياستها الاستعمارية فى مصر وبوحشية كرومر، وذهب إلى انجلترا نفسها والتقى ببعض أعضاء مجلس العموم هناك الذين اغضبهم اساءة استخدام كرومر لسلطاته وتشويه سمعة بريطانيا وهاجموه حتى اضطر لتقديم استقالته، وقامت السلطات البريطانية بالعفو عن المحكوم عليهم أو من تبقى منهم حيا ليصبح هذا اليوم خالدا فى تاريخ مصر كلها ويصبح 13 يونيو عيدا قوميا لمحافظة المنوفية .
وقام أمير الشعراء أحمد شوقى بتخليد هذه الملحمة فقال :
يادنشواى على رباك سلام ... ذهبت بأنس ربوعك الأيام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها ... وبأى حال أصبح الأيتام
نوحى حمائم دنشواى وروعى ... شعبا بوادى النيل ليس ينام
أما الأدب الشعبى فقد كان له رأى آخر حيث سجل الشاعر الشعبى ملحمة دنشواى بطريقة أخرى حيث سرد وقائعها وأدخل فيها وفاة الزعيم مصطفى كامل بعد الحادث بمدة بسيطة متهما الاحتلال بالتسبب فى وفاته وتناقلت الألسنة هذه الملحمة فى البيوت والطرقات ومنها :
ايش بعد حكم المحاكم والشاويش والباش
غلايين وساقها كرومر محربة للباش
وآدى الانجليز فرعنوا بعد ماكانوا غباش
نزلوا على دنشواى ماخلوش نفر و لا أخوه
وإللى انشنق ومات وإللى فضل جلدوه
يوم شنق زهران كانت صعب وقفاته
كان له أب منصان فى يوم الشنق مافاته
وأمه على السطوح تصرخ عليه وإخواته
...، إلى آخر القصيدة التى صورت بشاعة المشهد وصعوبته .
وكان هناك شاهد من أهلها حيث علق الكاتب البريطانى الشهير برنارد شو على هذا الحادث قائلا " إذا كانت امبرطوريتها تعنى حكم العالم كما جرى حكم دنشواى فلن يكون أى واجب سياسى مقدس وأكثر إلحاحا من تقويض هذه الامبراطورية " .