لم ألحظ ذلك إلاّ منذ سويعات، رغم أن قلقًا ساورنى عند قدومى لهذا المكان، عاصفة من أسئلة دارت بخلدى: تُرى ما الغريب هنا؟ ما الذى يدفعنى للتوتر هكذا؟ أى جديد لا أعلمه يستقر هنا؟.
نفس البيوت، أعمدة الإنارة بمصابيحها المحطّمة من سنين بعيدة، الحوانيت الصغيرة بذبابها الذى يطن بين الرؤوس ويحط على البضاعة المكشوفة، فله حق معلوم يأخذه بغصب أو برضا الجميع، لكن .. تلك الأرض تختلف قليلًا عن غيرها، هبطتُ هنا من وقت ليس ببعيد، زيارة مُجبر عليها، نزلت من السيارة بعد أن نقدت سائقها أجرته التى لم يلتفتُ إليها أو يُحصيها بل أخذها وألقاها بعلبة من صفيح صدئ بجواره وانطلق بعربته يجر وراءه حشرجة محرّكها العتيق، نظرته مبتسمًا قائلًا لنفسى: لطالما أحببت السفر بمثلك هذه السيارات لسبب لا أعلمه ولم أرغب ..
أسرعت لهدفى تحدونى رغبة فى إتمام ما جئت من أجله، جُبت الميادين الصغيرة بشوارعها المتفرّعة فى كل اتجاه، تفحّصت وجوه المارة كنت كمن يبحث عن أحد أعرفه وسط هؤلاء، لكن لم أعثر على ضالتى بينهم.
تذكّرت الآن، جميع من التقيتهم هنا كهول، يتجاوزون الخمسين بقليل، نواصيهم دب فيها الشيب، حتى لحاهم تكتسى بزغب أبيض كقمة جبل جليدي.
غريب أمركم؟ سؤال طرحته بصوت مرتفع على المارة من حولى ثم: أليس بينكم حدث نزق أو شاب مراهق أو صبى يقفز برشاقة أسوار البراءة ؟.
لم يُجيبنى أحد، أمر أثار حفيظتى أكثر، فأصررت أن أكتشف السر وراء ما يحدث، عن قريب تجلس عجوز تبيع خضروات، بسمتُها صافية و رائق حديثها، تهمس فتُجبرنى على الدنو منها، أخبرتنى بكلمات قليلة: أنت تُحمّلُ نفسك ما لا تطيق وترهقها من أمرها عُسرا .
قلت: أين صغار السن هنا؟ هل يموتون مبكرًا؟ هل وباء حلّ بينكم يعصف بأزهاركم الصغيرة؟ تلك مصيبة لو حدث ذلك، سيأتى يوم تُفنون عن بكرة أبيكم، خيال استقر بداخلى فرحت أتصور ما سيحدث وعلا صوتى و المرأة ترمقنى من طرف خفى، ربع ساعة أو أكثر و أنا أحادثها حتى ضقت ذرعًا بصمتها فجلدتها بنظرة حادة أجابت على إثرها بصوت ناعم يُثير الأعصاب: لا تقترب حتى لا تغيم الصورة بعينيك.