كنتُ أتجول وصاحبى عشيّةً فى المدينة، فسرنا سيرنا لتأخذنا طرقٌ وترمينا إلى طرق، وفى خلال مسيرنا بصرتُ رجلاً كهلاً يمشى على ثلاثة، قد احدودب ظهره، ومال فرعه، ورسم الدهر على وجهه أثاره، وأظهرت الأيام عليه تواليها، رأيته يستوقف كُلَّ مَن يمر أمامه ثم يهمس له همساً ثم يدعه لحاله، لم آبه لأمره قُلتُ لعلّه سائلُ الناس حاجة، ولكنى وجدته صفرَ اليدين لا يعطيه أحدٌ شيئا، فقلتُ فى نفسى " لننظرنّ أمره أن كان سائلاً أعطيناه سُئله وإن كان غير ذلك أجبناه لِمَا يريد " فأقبلتُ عليه وصاحبى نلتمس حاجته، وقبل أن نأتى مكانه ألاح بعصاه أمامنا فوقفنا، فهمس فلم نسمع فقتربنا أكثر، ثم همس فكِدنا سماعه، ثم أوضح همسه قائلاً :
" أى بَنِى، إنكم فى ميعةٍ الشباب وإبانه، وطلعية الهوى وعنفوانه، إذا أحببتم يا أبنائى فلا تحِبّوا من أعماق قلوبكم، وإذا تعلّقتَ بأحدٍ لا تجعل طرفاً بيدهِ وطرفاً بقلبك، بل اجعله طرفاً بيده وطرفاً بيدك فإذا ترك فاترك، وإذا أمسك فامسك، ولا تُهدِ قلبكَ كاملاً كيلا تعيش بدون قلب، ولا أريدكم يا أبنائى أن تكابدوا دفعَ ما سيلقى القلبُ من وجدٍ وما أنتم بقادرين".
فلمّا فرغ من مقالته نكف بأنامله دمعاً أراد أن يهوى، واتكأ على عصاه وهَمّ أن يرحل، فأشرتُ إليه أن تريّث، فانتظر فقلتُ له " والله يا شيخ إنكَ قلتَ فصدقت، وأشرتَ فأصبت، وإنّا لعلى رأيك وقولك، ولكن ما قصتك التى انقلبت بعدها هكذا، أهُجرتَ فى زمن مضى وزال جرحُ الهجر بقلبك، أم أُرغمت غيركَ فرضت بعد بغض؟.
هنا لم يسطع نكف ما أمطرت عيناه من دمع، فقال والقول يتهدج "سأخبرك، ولكن نجلس فما عادت قدماى تحملانى، فأجلسنا مجلساً وثيراً، ثم نظر إلى الأفق ومدّ فيه بصره " كأنه يستحضر أياماً خلت ينشرها أمامنا.