قضيتُ ليلة البارحة فى أرضٍ لنا نرعاها، وكانت السماء مَجلّوةً صافيةً قد هوى منها قُميرُها إلى مهواه، فأبدى لنا السماء بنجومها كأن لها ألفُ عينٍ أو يزيد تنظر بها علينا، وكنتُ قد أفرغتُ يدى مما كان يشغلنى فالتمستُ جوار مجلسِ القوم مكاناً غزا أرضهُ النجيل اللدن، فافترشتهُ وتوسّدتُ ذراعى ومن ثَمَّ أطلقتُ بصرى يجول فى أديم السماء، وكانت بعض نسمات الصَّبا تأتى تُداعب وجهى حاملةً أطايب الريح.
إن سماء الليل بعيدا عن المدينة وأضوائها لحَرِى بالمرء أن يتأملها، فإنها تجلو الفكر، وتُزيل الهَمَّ، وتجعل من النفسِ مرآةً لها .
كانت فى الأفقِ الغربى نجمةٌ زهراءُ لامعةٌ متلألئة، هى ألمع النجوم وأظهرها، وكنتُ أرى منها نورًا ينسكبُ من أعاليهِ فى قالب هيئتها هى، هى التى أذابتْ الفؤادَ حتى صار كرُضابِ فاها الذى شابه الشهد، هى التى عَلَتْ بحُبِّى عِلْوَ تلك النجمة فى بُعدِها ولكن فى سماء قلبها، كلما أنظر إلى النجوم أذكرها كأنها منها، ولا غرو أنها كانت نجمةً يوماً ما فأنزلها الله وألبسها ثوب البشر فكانت هى وإنها لكذلك ...
قمتُ لحاجةٍ من حوائج الأرضِ أقضيها فأنهيتُها وعُدتُ إلى مرقدى وقد قطفتُ عودًا من نعناعٍ زكى الرائحة، وأخذتُ أُدنِيه من أنفى اَنتشى عبقه الفوّاح بأريج منها هى، هى التى شابه قَدُّها هذا العود فى لينه، هى التى كنتُ حين أراها أرى حولها هالةً من عبقِ الفضيلة يذود عنها، كلما أنظر إلى الرياحين أذكرها كأنها منها، ولا عجب أنها كانت ريحانةً يوماً ما فأقامها الله فى ثوب البشر فكانت هى وإنها لكذلك .