إذا اجتمع شيطانٌ لَجوجٌ بالذنبِ ، ونفسٌ أمّارةٌ بالسوءِ على قلبِ امرئٍ فَتَكَا به ، ولكن إذا كان اِمرأً ذا قلبٍ مُتيقِّنٍ بإيمانٍ قويمٍ راسخٍ ، لكان ذلك اللجوجُ وتلك الأمّارة أهون عليه من رجلٍ واهنٍ ضعيف يريدُ أن يحرك جبلًا شامخًا بدفعِ ساعديّه ..
وإن الشيطانَ ليدخلُ قلبَ الرجلِ من ثغراتٍ في النفسِ كما تنخرقُ الريحُ في البيتِ من كواه ، فإذا أردت ألا تَدخُلَ الريحُ البيتَ فاِغلق نوافذه ، وإذا أردت ألا يَدخُلَ الشيطانُ القلبَ فـ سُدَّ ثغراتِ النفسِ سَدًّا منيعًا لا يمُرُّ خلاله ..
ثم إنّ لذلك السَدِّ المنيعِ ثلاثةً إذا رُكِّبن طِباقًا كَمُلَ واتسق ، وإذا سقطتِ إحداهن تواهن وانشق ، أمّا الثلاثة ؛ فواحدةٌ التقوى والأخرى الفكرُ والثالثةُ النظر ، فتجعل مرجعَ النظرِ الفكرَ ، ومرجعَ الفكرِ التقوى ، فإذا أنت أقمتَ على ذلك أوجدتَ نظامًا للنفسِ من التقوى القائمة عليها ، ونظامًا للشهوةِ من الفكرِ القائم على التقوى ، ونظامًا لِمَا حولكَ بالنظرِ القائمِ على الفكرِ والتقوى ، ولعلّ قائلًا يقول ؛ ألا تفسّرُ لنا تلك الثلاثة كي نجعل من معانيها السدَّ لا من مُسمّاها ..
فأقول :
أمّا التقوى ؛ فهي يقينٌ بما يُحبّ اللهُ من أعمالِ وبما يبغض ، فيرضى على الأولى ويجازي جزاءً الحُسنى ، وينقم على الأخرى ويجازي جزاءً الهلكة ، وأنّ كَلَّ عملٍ تعملهُ يكون من وارئهِ اللهُ ..
وأمّا الفكرُ ؛ فهو برمجةُ العقلِ على ألا ينظر للمعصيةِ نظرةً لوقتها ولكن ينظرُ لها نظرةً لِمَا يبقى منها ، ثم يتفكر في لذتِها التي تذهبُ بذهابها وما لها دوامٌ غير ذنبها ، ويُرجِعُ فكرهُ إلى تقواه ليرى ما تحكم في هذه الفَعلة ، أهي تُرضي الله أم لا ؟
وأمّا النظر ؛ فهو إطلاقُ الحواسِ إلى ما حوله على بصيرةٍ من فكرٍ وتقوى ، فلا تكون العينُ ناظرةً إلا وهي مُدركةٌ إلامَ تنظرُ ، أهذا الذي من حولي يُرضي الله أم لا ؟
وقد صدق الله إذ قال "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ".
قال الإمام السعدي مُفسرًا هذه الآية " ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطًا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب ، ومسه طائفٌ من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب اللّه عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر اللّه تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه ".
وأنتَ أدرى من أي ثغرةٍ يأتيكَ الشيطانُ منها ، فاجعل في ذهنكَ صورةَ سَدٍّ عظيمٍ كأنه يحجبُ الأفقَ من عظمِ ضخامته ، وأنّ هناك عند قدمهِ رجلٌ ضعيفٌ تضطربُ قامتهُ وهنًا يلكزُ السَدَّ بيدهِ يريد أن يحطِّمَه ، فذلكم الشيطانُ في ضَعفِ كيدهِ ، وذلكم الإيمانُ في شِدّةِ عزمهِ ..