لا تختلف التجربة الصينية طوال سبعة عقود عن لغة أهل المليار نسمة ويزيد، فكلاهما صعب جدا، فالنظام الذي يراقب عن كثب منذ خمسة أشهر في هونج كونج تظاهرات عنيفة مطالبة بالديمقراطية على النمط الغربي، ويخشى اللجوء إلى سيناريو مشابه لقمع "ربيع بكين" قبل ثلاثة عقود، نجح في استنقاذ 740 مليون صيني من ربقة الفقر، وتمكن من تغيير جلده بشكل دراماتيكي من اقتصاد زراعي ريفي متخلف إلى اقتصاد صناعي بالغ التطور، معتليا قمة الهرم بين الاقتصادات العالمية.
هناك نظرية يعرفها المؤرخون جيدا، وهي أنه لكي تعرف قيمة أي حدث تاريخي، ما عليك إلا أن تنزعه من سياقه، ثم تتوقع ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يقع هذا الحدث؟، ولو طبقنا تلك النظرية على الحالة الصينية، فما علينا إلا أن نتخيل ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم تدشن الصين في عام 1949مرحلة جديدة من تاريخها المليء بالمتناقضات.
جون ستيوارت، السفير الأمريكي لدى الصين قبيل قيام الجمهورية الصينية الجديدة، قال إن ثلاثة إلى سبعة ملايين صيني كانوا يموتون جوعا قبل سنة 1949، وإن إطعام 550 مليون انسان (عدد سكان الصين سنة 1949) ستصبح المشكلة الأزلية للصين الجديدة.
وبحلول ثمانينات القرن الماضي، حدث مالم يكن في الحسبان، إذ قفز متوسط نصيب الفرد الصيني من الحبوب إلى أربعمائة كيلوجرام في السنة، لينتهي زمن شح الغذاء.
وعلى مدى السنوات السبعين، سجل الناتج المحلي في الصين قفزات هائلة، وبلغ 13.6 تريليون دولار في عام 3018، مشكلا حوالي 16 في المائة من الاقتصاد العالمي، بينما زاد دخل الفرد إلى نحو 10 ألاف دولار، أي أنه تضاعف أكثر من 500 مرة مقارنة بعام 1949.
وتبقى تجربة الصين في مكافحة الفقر، مصدر إلهام لكثير من دول العالم، وخاصة الدول العربية والإفريقية ، حيث يرزح نصف سكان العالم تقريبا تحت نير الفقر، ومؤخرا صرح رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، بأن هدفه الرئيسي هو إخراج 100 مليون باكستاني من براثن الفقر، مستلهما التجربة الصينية.
وبعد سنوات الانتعاش والنمو المذهل، تصحو الصين اليوم على وقع معارك ضارية، أخطرها الحرب التجارية المشتعلة مع أبرز شركائها الاقتصاديين.
ورغم تعدد جبهات الحرب التجارية، إلا أن "سرقة التكنولوجيا" وحماية الملكية الفكرية تظل أم المعارك المستعرة بين واشنطن وبكين، حيث يتم استهداف وتحجيم عملاق التكنولوجيا الصيني "هواوي"، المعتبرة في الوعي الجمعي الأمريكي أخطر من ماو تسي تونج وجيشه الجرار وكتابه الأحمر.
وضمن أوراق الحرب التجارية، تبرز هونج كونج "الكعكة الصينية المفضلة"، حيث تستخدم كورقة ضغط في النزال الأيديولوجي غير المعلن.. صحيح أن متظاهري الإقليم الصيني لديهم الحق في المطالبة بحقوقهم العادلة، إلا أن واشنطن لم تفوت الفرصة، وكانت حاضرة بقوة في هذا الملف المتأزم والمعتبر شأنا داخليا، ونزاعا صينيا- صينيا.
وفي مقابل تلك المعضلات الشائكة، نجحت بكين في توسيع نفوذها في الشرق والغرب، وبخاصة في آسيا وأفريقيا، عبر سلاح الاستثمارات المليارية، في الوقت الذي تنسحب فيه واشنطن تدريجيا من الشرق الأوسط وتنكب على ذاتها، تنفيذا لشعار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب "أميركا أولا".
وعبر سياسة "الأمن الاقتصادي مقدم على الأمن العسكري"، وسعت الصين تواجدها في المنطقة العربية، مكتسبة حلفاء جدد، وأصبحت شريكا موثوقا به، مما دفع التجارة الثنائية بين الصين والدول العربية للنمو بنسبة 28 في المائة إلى 244.3 مليار دولار في 2018.