ليس بالضرورة أن تتواجد بنفسك أو تشترك بفعلك لكى تكون شريكًا فى ثواب أو فى معصية قد تعود عليك بنعمة أو بنقمة من الله عز وجل .. هذا ما أخبر به الشرع الكريم؛ فقد أخرج أبو داود مرفوعًا فى روايته "إذا عُمِلتِ الخطيئةُ فى الأرضِ؛ كان من شهِدَها فكرِهَها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيَها كان كمن شهِدَها".
أي: إذا فُعِلَ المنكرُ والمعاصِى كانَ الذى حضَرَها وفُعِلَت أمامَه، أو عَلِمَ بها فكَرِهَها كانَ مِن جَزائهِ أنَّه يكونُ فى حُكمِ مَن لم يحضُرْها فلَم يقعْ علَيهِ إثمٌ. ومَن لم يَقعْ أمامَه مُنكَرٌ أو مَعصيةٌ، ولكنَّه سمِعَ بها ثم أَعجَبتْه ولم يُنكِرْها بقَلبِه كانَ مِن جَزائِه أن يقعَ عليهِ إثمُ مَن شَهِدَ المنكرَ ورَضِيَه ولم يُغيِّرْه معَ قُدرتِه على ذلكَ.
إلى هنا ولا يبدو الكلام غير غريب على الآذان، فوقوع الفتن -والتى تعنى الابتلاء والامتحان– ليس بجديد على عصرنا، ولكنها سمة الحياة الدنيا منذ بدء الخليقة، ولذلك خُلقنا .. أما الجديد فى عصرنا هذا؛ فهو كثرة تواردها -أى معدل حدوثها- فهذه سمة عصر آخر الزمان الذى نعيشه الآن ونحن ضيوفه، فمعدل سماع الأخبار قديما وقبل الثورة الصناعية -فى القرن الماضى التاسع عشر- كان لا يتعدى أصابع اليد فى العام الواحد، ومن ثَمَّ فمعدل الانخراط فى فتنة وما يتبعها من نجاة منها أو وقوع فيها كان بسيطًا، أما الآن وفى عصر الثورة المعلوماتية فمواقع التواصل الأجتماعى كفيلة أن تجعل معدل عرض الفتن على القلوب كمعدل مرور العين على خط سريان صفحات الموبايل أو الكمبيوتر! وفى حقيقة الأمر فقد دهشنى وصف رواية سيدنا حذيفة –رضى الله عنه-مرفوعة إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فى الحديث المتفق عليه بتعبير فاق بلاغة المتكلمين حين قال:
(تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَى قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَى قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ). أعاذنا الله أن نكون من الصنف الثانى. وليس بالضرورة أن يكون هذا هو تفسير ذلك الأثر الشريف ولكنه ينطبق على حالنا من وجهة نظري.
ولعل من الأمور العجيبة فى زماننا هذا؛ أن الكثيرين لا يكتفون بمرور الفتن على قلوبهم عند تصفحهم لمواقع التواصل الاجتماعى بل تجد منهم من يشارك بالقول بدون علم أو سابق دراية أو تخصص، فعلى سبيل المثال: هذا موضوع يخص فلان، فيقوم البعض بالتعليق من هوى نفسه، ويمرره لينخرط فى الموضوع التالى الذى يخص فضيلة الإمام فلان، فلابد من الكتابة أيضًا .. وهذا يخص الفنانة فلانة .. لابد من المشاركة، وهذا الموضوع فى البلد الفلانية .. لابد من المشاركة، وهكذا دواليك حتى ينتهى اليوم وأقل ما يقال فى هذا التوصيف " فتنًا كقطعِ الليلِ المظلمِ. يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسى كافرًا. أو يمسى مؤمنًا ويصبحُ كافرًا.
فياله من حمل ثقيل وبلاء شديد، ولا أرى من وجهة نظرى مخرجًا من ذلك إلا الابتعاد قد الإمكان عن هذا البلاء، ولا أستطيع أن أقول عدم الاقتراب لأن ذلك صعب المنال .. أعاذنا الله تعالى من فتن الدنيا ومن عذاب الأخرة.. أمين.