الصلاح والإخلاص أصبحا من الصفات النادرة فى حياتنا فى هذا الزمان، وذلك لأن أصحاب تلك الصفات وجودهم هو رزق من عند الله ونعمة ينعم بها الله على من يشاء.
فى حياة كل منا إنسان قريب من القلب وعزيز على النفس له مواقف لا تنسى وكلمات مؤثرة وضحكات لها ذكريات ونصائح غالية وأيام نتمنى أن تعود مرة أخرى لما لها من أحداث محببة إلى قلوبنا وعقولنا.
وصدق الله العظيم حيث قال:- ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾، والمتقون هم الذين يقومون بحقوق الله وحقوق العباد، هم الذين أدوا ما افترض الله عليهم واجتنبوا ما حرم عليهم وعاملوا العباد معاملة صحيحة ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى وليس من أجل مصلحة معينة أو مكاسب وقتيه أو الاستفادة من منصب ما أو تحقيق هدف بعينه.
وصدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال : - سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.
نعم فهذا دليل على أن الصالحين والمخلصين فى حياتنا عملة نادرة نبحث عنهم كل يوم وعن صفاتهم التى حددها الله تبارك وتعالى فى كتابه الكريم حيث قال:-
{إلَّا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) }.
فهؤلاء يمرون فى حياتنا مرات قليله جدا ومعدودة، يجب علينا أن نستغل وجودهم معنا واستثمار كل اللحظات معهم فى زيادة خبراتنا العملية فى كيفية التعامل مع الآخرين ورؤية الحياة على حقيقتها بدون تزيف أو تجميل حتى نقدر على استكمال ما بقى من أعمارنا.
ومن أصدق الأمثلة على ذلك ما حدث بين علمين كبيرين فى عصرنا الحالى وهما إمام الدعاة إلى الله فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى عليه رحمة الله وفضيلة الإمام الأكبر الراحل فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق عليه رحمة الله، فمن مواقف الشيخ الشعراوي مع شيخ الأزهر الراحل، الدكتور جاد الحق علي جاد الحق ، الذي كان يصر علي تقبيل يد ه فيما يتحفظ شيخ الأزهر علي ذلك ويرفض بشدة، وكان الشعراوي لا يعبأ بهذا الفعل أمام الجميع "العامة والخاصة".
وفى ذلك يقول الشيخ الشعراوى رحمه الله :-
"حينما أوقر شيخ الإسلام فإنني أنصر ديني، وكما كنت أقبل يد شيخي وأستاذي، الدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الإسلام والمسلمين، فأنا أحرص أيضًا علي تقبيل يد الشيخ جاد الحق، حتى ولو كان أصغر مني سنًا، فالإسلام أكبر منا جميعًا"، هذه الجمل القصيرة ضرب بها الشيخ الشعراوي مثالًا في الخلق والتأدب مع مشايخ الأزهر، وزرع في قلوبنا من خلالها ضرورة أن تكون تلك التعاملات مع مشايخ الأزهر فهم المرجعية العلمية والفقهية للمسلمين فى العالم بأسره ورموز يجب توقيرها.
ورغم محاولات الشيخ الشعراوي الدؤوبة لتقبيل يد شيخ الأزهر، فإنها كانت تأتي دون جدوى لرفض الإمام الأكبر الذي كان يرى في الشعراوي "الأكبر منه سنًا" أعلي منه مقامًا وعلمًا، ولا يجوز له أن يفعل ذلك، لكن محاولات الشيخ لم تتوقف، حيث جمعهما لقاء في إحدى الاحتفالات في محافظة الدقهلية، وبينما عاود رغبته بتقبيل يده، رفض الشيخ جاد الحق، ورد عليه الشيخ الشعراوي بالقول: ألم أقل لفضيلتكم أنني لا أقبل يدكم يا مولانا بل أقبل يد شيخ الإسلام والمسلمين، وهنا انتاب الحضور حالة من الدهشة لتأدب عالمين كبيرين بحجمهما وقيمتهما العلمية.
وبمرور الأيام، وبينما يسجل الشيخ الشعراوي خواطره القرآنية بمسجد سيدنا الإمام الحسين، فإذا به يشاهد الشيخ جاد الحق يدخل المسجد، ويحاول أن ينضم لبقية الحضور ليسمع خواطره، إلا أن الشيخ الشعراوي أستأذن المخرج بضرورة أن يوقف التسجيل لحضور شيخ الأزهر الذي باغته برد لم يكن يتوقعه قائلا: -
والله ما جئتكم إلا لأسعد بسماع خواطركم يا مولانا.
هنا قرر الشيخ جاد الحق، أن يفوت علي الشيخ الشعراوي الفرصة لتقبيل يده، كما حاول في المرات السابقة، وسلم عليه بتحية الإسلام دون مصافحة، إلا أن الشيخ الشعراوي لجأ إلي حيلة لم يكن يتوقعها شيخ الأزهر وقتها، وهى أن أظهر الشيخ الشعراوي للشيخ بأن توازنه قد اختل، وأنه سيقع علي الأرض بعدما وقف لمصافحته، وأن بدا وكأنه سيقع علي الأرض، وأسرع شيخ الأزهر لإنقاذه وأمسك بيده، وبينما التقت اليدان قام الشيخ الشعراوي بتقبيلها بمباغتة، ليضحك الشيخ جاد الحق من هذه الحيلة، قائلًا له: تاني يا مولانا؟، ورد عليه الشيخ الشعراوي بالقول: -
ألم أقل لفضيلتك في المنصورة أنك شيخ الإسلام والمسلمين.. لقد توقعت ما تفكر فيه فقبلتها بتمكين أمكن.. وأعدك يا مولانا بأنني لم ولن أكف عن فعل هذا ما دمت حيا؟.
هؤلاء هم الصالحون والمخلصون بحق لأنهم عملة نادرة لصدق محبتهم لبعضهم ابتغاء مرضاة الله تعالى بدون تزيف للمشاعر وبدون وجود للغة المصالح بل كانوا يسعون لصالح الأمة كلها.
ليتنا الآن نجد الأخ والصديق الصالح والمخلص فى حياتنا حتى نتخلص من زمن كثرت فيه لغة المصلحة الخاصة والاستفادة من الآخر، بل والعمل على إظهار الوجه الضاحك أمامه ثم التحدث عنه بشكل سيئ فى ظهره ونسيان وقوف هذا الشخص بجانبك فى أحلك اللحظات وفى أصعب المواقف.
وأخيرا :-
فهى دعوة لنا جميعاً لفلترة شاملة فى حياتنا لكل من نعرفه حتى يبقى فيها الصالحون والمخلصون فقط وطرد أصحاب المصالح الخاصة والوجوه السوداء خارج حياتنا نهائيا حتى يرزقنا الله بحسن الخاتمة ومرافقتهم فى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ.
فمن يقبل تلك الدعوة؟؟؟؟؟؟؟؟