زى النهاردة فى غرفة كبيرة بها الكثير والكثير من الأسرة البيضاء وبينها مساحات قليلة ويفصلها عن بعضها بعض الستائر، ومن ضمن محتويات الغرفة الكبيرة يوجد ثلاجة وجهاز تليفزيون أغلب الوقت يصدر منه صوت القرآن الكريم وعدد من المراوح المتناثرة المعلقة على الجدران للتخفيف من حرارة الصيف، وحرارة أخرى أشد من حرارة أغسطس ساكنه فى تلك الأجساد الصغيرة التى تعانى وطأة المرض اللعين، والكثير والكثير من الدموع والآهات المختلطة بالدماء وأحزان لا تعد ولا تحصى.
على كل سرير يرقد طفل بصحبة أمه التى تنظر إليها تجد كل مأسى الدنيا اجتمعت فى نظرة مختلطة بين أمل ويأس وتمنى ورجاء، بين حلم وواقع مرير، تجد فى نفس النظرة الموت والحياة يعيشان سويا.
كل هذا فى مبنى كبير يطل على نيل القاهرة، وهنا نقف قليلا فليس كل ما يطل على النيل يسعد بالمنظر البديع والمياه البراقة والأضواء المتناثرة اللامعة والمبانى الشاهقة والفنادق واليخوت والمراكب العائمة التى يتمنى أى إنسان أن يعيش فيها ويستمتع بهذا المنظر الخلاب.
وعندما يستيقظ يطل من الشرفة على منظر الأشجار الخضراء التى تتدلى بعض فروعها وأغصانها فى مياة النيل العذب لترتوي.
هنا فى ذلك المبنى يختلف كل شيء، هنا وقفت أنظر من شرفة الحجرة الكبيرة التى (تسمى العنبر)، تمتلئ بالأطفال من مختلف الأعمار يجمعهم مرض واحد يمزق أجسادهم الواهية الضعيفة ويمزق معها قلوب أمهاتهم وذويهم وينهش فيها الألم بلا رحمة، وقفت أنظر من الشرفة المطلة على النيل وفى عقلى وقلبى آلاف من الأفكار والكلمات والآهات المكتومة وعيونى تبكى بدون دموع وظهرى انحنى فى عز الشباب.
وقفت أحدث نفسى حيث لا أحد معى إلا الله ومريم التى أنهكها الألم ورقدت فى استسلام مع أول جرعة كيماوى، نظرت للدنيا التى لم أعشها ودار حديث مع زوجى فى الهاتف وسألته كيف انهار بيتنا الصغير وتفرقنا وهجرنا منزلنا.
رحل يوسف منذ تسعة أشهر، نعم تسعة أشهر فقط لم أفق من هول الصدمة بعد، رحل إثر حادث أليم وبعدها ذبلت مريم والآن ترقد فى معهد الأورام، أكثر مكان فى العالم تعذبت فيه يخيل لى لو كنت سجنت أو اعتقلت ما رأيت عذابا مثلما رأيت فيه، خلال خمسة أيام فقط خرجت منه كهلا، كل شىء شاخ وشاب قلبى وجسدى وعينى والدنيا كلها أصبحت لا تساوى جناح بعوضة.
قلت لزوجى لقد تفرقنا وهدم بيتى الصغير، رحل يوسف وستلحق به مريم وأنت وباقى أولادى تفرقتم كل ذهب لمكان غير الآخر، وأوصدت أبواب بيتنا الصغير وانطفأت أنواره وهجره الأحباب، كان هذا الحوار ليلة الاثنين الثانى من أغسطس عام 2009.
وفى الساعة الحادية عشرة مساء تعبت مريم واستدعيت الطبيب وصعدنا بها إلى غرفة العناية المركزة ودخلت أحملها على يدى وأمشى ولا تحملنى قدماى امشى ولا أستطيع أن أقف مستقيمة فقد انحى ظهرى وثقل جسدها وكأنه امتلأ أضعاف وزنها وانا وحدى ولكن الله لم يتركنى ،دخلت مسرعة إلى العناية المركزية وضعتها على السرير وتلفت حولى وجدت شاب يجلس يرتدى معطف (البلطو) الأبيض ولا أدرى أكان طبيب او ممرض ام ماذا وجالس بيده الموبايل قلت له بنتى تعبانه أوووى الحقنى قلى سيبيها قلتله قوم شوفها قلى اخرجى بره ممنوع تواجدى هنا وأخرجنى حتى لا أزعجه ويكمل ألعابه أو محادثاته ورسائله على الموبايل.
وضعوا مريم على أجهزة وعدة خراطيم معلقة تتدلى من جسدها واحد فى وريد الذراع وآخر فى وريد القدم وتارة أخرى فى وريد الرقبة، وهذا المنظر كان بمثابة السكين الذى غرس فى قلبى وبين أضلعي، كلما تأوهت مزقنى.
هنا ترقد #مريم# الرقيقة الجميلة ذات الوجه الأبيض والملامح الصغيرة والعيون الجميلة هنا ترقد مريم ذات الشعر الحريرى والخصلات المنسدلة على الجبين ترقد ساكنة الآن تتدلى منها الخراطيم المختلطة بدماء من يدها وذراعها ورقبتها وممسكة اليدين حتى لا تنزع سنون الحقن المدببة والمغروسة فى جسدها الرقيق.
نظرت لى كنت أحس بها تريد أن تنزع تلك الخراطيم وسنون الحقن المدببة القاسية التى تمزق أنحاء جسدها الرقيق تمنيت أن تمتد يدى وانتزعها انا.. عنها ربما اريحها من آلامها وآلامى ولكن خوفى عليها جعلنى مقيدة بلا أغلال سجينة بلا قضبان حبيسة فى تلك البراح.
ووضعوا لها المسكن ولا أدرى كيف مضت الساعات انها ثقيلة جدا ومملة مضت فى رتابة انتظار مميت، وبت وحدى بقية ساعات الليل متكأه فى سرير مريم يدى فارغة وصوت دقات عقارب الساعة المعلقة على الحائط الكل نيام وعينى ممتلئة بنهر من الدموع وقلبى تثقله الآلام والجراح وفجأة اخترق هذا الصمت حديث بين اثنتين من قاطنى الغرفة الكبيرة لم أنتبه إلا على كلمة الموت وكأنها رسالة بعثها الله لى ليمهد ما يحدث بعد ساعات قليلة.
فجأة غلى الدم فى عروقى وكدت افقد وعيى من هول ما اتوقع ان يحدث ونهرتهما وقلت لهما اصمتا عن هذا الحديث، وكأنى أرفض الواقع واتحدى الأقدار.
مضت الساعات وفى السابعة ذهبت لأرى ابنتى الوحيدة مريم ذات الست أعوام الا ايام قليلة وتحايلت ودخلت رأيتها ترقد ساكنه ورأيت بقايا دماء وسألت ولم اعرف حقيقة ما حدث، قالوا أنها حاولت أن تنزع الخرطوم المدبب المعلق فى رقبتها ولا أدرى ماذا حدث.
اهو إهمال أم قدر ام أسباب جعلها الله لتكون مبرر لموتها، وجدتها مازالت على قيد الحياة ربما نزفت كثيرآ ولا احد يدرى و ربما نقلوا لها جرعات من الدم وربما أشياء أخرى لا أدري.
كان يدور بداخلى ألف سؤال ولكن كل المبشرات وكل الرسائل الربانية كانت تقول حتمآ هناك وداع وفراق أبدى.
تركتها تارة صعودا وتارة نزولا على درجات السلم القاسى بين ما يسمى العنبر تلك الغرفة الكبيرة المطلة على النيل وبين غرفة العناية المركزة وكثيرآ كنت أفيق على كلمات يرددها لسانى تعلمتها بعد رحيل يوسف وهى اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلفنى خيرآ منها..
كانت هذه إحدى الرسائل الربانية ونزلت لأصلى صلاة الظهر بجوار الشرفة فى العنبر الكبير وبعد أن انتهيت مباشرة جاءنى إحساس عشته مرتين فقط فى حياتى أول مرة عندما توفيت أمى وأنا فى وسط الطريق ذهابا إلى جدتى لأأتى بها لترى امى ابنتها الوحيدة التى سقطت فجأة وبدون مقدمات جاءنى تلك الاحساس الرهيب الذى لا أقوى على وصفه أو أجد من الكلمات والمفردات التى تعبر عنه غير أنه يشبة هول يوم القيامة بالنسبة لي.
وعشت تلك الإحساس المرة الثانية عندما ترك يوسف يدى وسقط من النافذة و ايضا وضع فى العناية المركزة إثر نزيف بالرئة وذهبت اتوضأ وافترش الأرض واصلى واردد الدعاء وعندما لفظ أنفاسه الأخيرة جاءنى نفس الاحساس وخرجت من الصلاة والنار قد اشتعلت فى قلبى ولا يشعر بها غير.
واخذت جسدى المنهك من ايام طوال الحملة واجرى مسرعة اقفز درجات السلم إلى حيث ترقد مريم لأجد كل العيون شاخصة نحوى وهمهمات كنت أغفل عن سماعها وكلمات مكتوبة فى كل العيون قرأتها ولكن رفضت تصديقها حتى جاءتنى الصاعقة.. ماتت مريم !! نعم ماتت مريم ؛؛ وانتصر السرطان..
الغريب أننى لم أبكى اغرورقت عيناى امتلأت بالدموع ولكنى لم أبكى أو اصرخ أو أطلق الآهات التى تمزق أضلعى وانفض كتل الاحزان والآلام التى تحتل قلبي، كنت فى حالة عدم تصديق وفى نفس الوقت كنت أشعر واعى انها ماتت هى أحاسيس كثير وضخمة ورهيبة كلها اختلطت وعشتها جميعها..
وجاء المشهد قبل الأخير واخذونى امسكوا بذراعى وقدماى لا تحملنى أخذوا يجرون جسد منهك واهن ضعيف لكى أراها فى المغسلة قبل أن ترتدى ثوبها الأخير الكفن الأبيض وتركت كل الفساتين والأحذية والحقائب والإكسسوارات وتوك شعرها الحريرى وعرائسها الجميلة والعابها الكثيرة رقدت واستسلمت بعد أن راحت عنها كل الآلام وقبلها بساعات نطقت ماما ورفعت يدها وتعلقت برقبتى وشدتنى إليها لتقبلنى على وجنتى وتحتضننى بيد واليد الأخرى معلقة بالخراطيم وسنون الحقن المدببة مغروسة فى عروق يدها بلا رحمة أو شفقة احتضنتنى باليد الخالية وقبلتى القبلة الأخيرة وأنا لا أدرى انها قبلة الوداع وأنها آخر ضمة إلى صدرى الذى كم احتضنها أعوام وليالى طوال.
شيعتها إلى مرقدها الأخير مغلفة برداء ابيض ورقدت بجوار يوسف فى المقبرة الموحشة التى افسحوا فيها مكان آخر بجوارهما ليدفنوا قلبى المحترق المتهالك وأسدل الستار على رحلة الشقاء والحب..زى النهاردة.. وداعا مريم.