أكتب لكم خطابى الأول والأخير وأنا على حافة الموت، ألتقط أنفاسى الأخيرة.. وأنتم تقرأون هذه الكلمات سأكون أنا على الشاطئ الآخر.. سأكون فى عداد الموتى.
ولأبدأ من أول القصة..
أنا رجل فى آواخر العقد السادس من العمر.. عشت حياتى الطويلة المريرة وحدى بعد أن توفيت زوجتى وتركت لى خمسة أبناء، أفنيت عمرى لهم.. وكبروا وتزوجوا وأنجبوا، وبدأت أستقبل على صدرى الضامر.. أبناءهم لأعبر بهم السنين الباقية من حياتى.. كنت الثمن الذى دفعه جيلنا من لحمه ودمه.. لتدخلوا الجامعة وتتعلموا وتقولوا للعالم ها نحن.
ولكنى الآن وقد تغيرت من حولى الدنيا.. وتركنى أولادى وأحفادى، مريضاً وحيداً أتحدث مع الحائط.. أحس أنى غريب فى عالم غريب.. عالم ملىء بالثرثرة والغرور والإلحاد والثورة.. الثورة على كل شىء.. الثورة على كل ما هو قديم لمجرد أنه قديم "أنتيكة".
أبنائى وأحفادى الذين ربيتهم ومنحتهم شبابى وعمرى.. ينظرون إلى كأنهم ينظرون إلى "تحفة" أو "أنتيكة".. ويسخرون منى ويضحكون على لأنى لا أفهم فى الوجودية والحب والسياسة والكمبيوتر والسوشيال ميديا.
فأنا الجد الكبير العليل الذى لم يعد يصلح لأى شىء.. أبو طربوش وعصاية.. ال "Old Fashion" ، غير المتحضر.
ولكن ما هو التحضر وما هى الثقافة والعصرية من وجهة نظركم؟!
عقوق الوالدين.. أم الحبس وراء قضبان مواقع التواصل الاجتماعي.
يا لها من مخادعة وأكذوبة كبيرة .. إن ما تظنوه حرية هو فى الحقيقة عبودية.. عبودية التكنولوجيا الحديثة ومخلفاتها وما تفعله بأولادنا وبناتنا.. وسأجد أحدهم يقف معترضاً ويقول لى فى سماجة وعنتظة.. هذه لغة العصر.. إنها الموضة.. متبقاش رجعى خليك ستايل يا جدو..
ولكن أى لغة وأى موضة وأي عصر.. الذى يجعل الفتاة والشاب ينغلقون على أنفسهم وينطوى كل منهم فى عزلة ويغلق عليه باب غرفته ويجلس بالساعات والأيام أمام شاشة.. وما خفى كان أعظم.
لقد أصبح هذا الجيل مفككا ليس لديه راية واحدة ولا مذهب.. وأنا ليس ضد التطور والتكنولوجيا والعلم الذى لم نشاهده فى عصرنا، إنه لشىء عظيم ورائع.. ولكنى ضد مخلفات هذا التطور.. ولكل شىء آفته وسلبياته
ان المصانع تنتج احتياجتنا.. وفى نفس الوقت مخلفاتها تلوث البيئة التى نعيش فيها وتجلب لنا الأضرار..
ولا أعتقد أن ما يفعله أغلب الشباب على الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي وما نسمعه ونشاهده من أخبار فى الوقت الحالى.. هو تطور وتقدم وحرية
ولكن ما يحدث الآن.. فوضى أخلاقية وحضارية بكل المقاييس.
أصبحت السوشيال ميديا تهدد حيائنا وأخلاقيتنا..بضغطة إصبع تأتى إليك الدنيا على مائدتك وأنت جالس على سريرك وأمامك شاشة.. تستطيع أن تحب وتتزوج وتطلق وتشاهد وتبحث.. ورغم سهولة الأشياء هذه .. أصبحت الحياة رتيبة مملة ليس لها طعم ولا مذاق.. أصبح كل شىء بلا معنى.
أنا لا أنتمى لهذا العالم ولا أطيق مثل هذه الحياة.. لقد انتهت دولتى.. ولم يبقى لى سوى البكاء فى صمت بجوار النافذة.. وحيدا منعزلا منتظر دورى القريب.
كنت أطمع فى شىء واحد.. هو التقدير.. ولكن حتى هذا لم أحصل عليه.
كنا نسمع زمان عن مجاذيب السيدة والحسين.. ولكن الآن أصبحنا مجاذيب "الإنترنت".
أنتم تعيشون فى غفلة.. محكوم عليكم بالسجن خلف قضبان شىء تسمونه "السوشيال ميديا".