منذ أن أطّل علينا هذا الفيروس انقلبت الدنيا رأساً على عقب.. واجتاحت حالة من الذعر جميع بلدان العالم على اختلاف أوضاعها الاقتصادية وتباين أحوال شعوبها...وبات هذا الوباء هماً وقلقاً للجميع على جميع الأصعدة...وما بين التهوين والتهويل اختلفت ردود أفعال الشعوب نحو مكافحة هذا الفيروس بشتى الوسائل...ولكنها جميعاً اتفقت على شىءٍ واحد وهو اعتكاف جميع الناس فى المنازل...وقبعت جميع الأسر فى البيوت لتبدأ حياة جديده بتفاصيل يومية مختلفة تماماً عن ذى قبل...
فلقد التفت الأسرة الواحدة ولأول مرة منذ سنوات عديدة حول شاشة تليفزيون واحده...وتقاسمت مائدة طعام واحدة كما كان يحدث فى العهد البائد قبل اجتياح هذا "الطوفان" التكنولوجى المسمى بالموبايل الذى فرّق أفراد الأسرة الواحدة تحت سقفٍ واحد وعزل كلاً منهم داخل "شرنقته" الخاصة ليغزل كل واحدٍ منهم عالماً افتراضياً خاصاً به فى معزلٍ تام عن الآخرين !
ويأتى "كورونا" ليضع حداً ولو بصفة مؤقتة لهذه الغربة الأسرية ...فمع هذا الحبس المنزلى الاجبارى كان لابد من أن تتشارك الأسرة العديد من الأنشطه لكسر حدة الملل.... فأصبحوا يتبارون فى الألعاب...يتفننون فى إعداد أشهى المأكولات..يتحادثون ..
يتسامرون ..يكتشفون بعضهم من جديد...وضجت البيوت بالضحكات...بالدعاء..
بالصلوات..وعمت حالة من السلام النفسى والود المفقود منذ أمدٍ بعيد..
"كورونا" منحنا بعضاً من الهدوء وسط زخم الحياة.. وأكد لنا أننا نستطيع أن نختلس من الزمن لحظات ولحظات لإعادة ترتيب الأولويات والاتساق مع الذات والمضى قُدماً فى هذه الحياة بروحٍ جديدة وفكرٍ مختلف لإدراك المعنى والهدف الحقيقى لوجودنا على سطح هذه الأرض...
فربما كان "كورونا" استجابةً لنداء قلب أم جفت دموعها ألماً لفراق فلذة كبدها المغترب للدراسه خارج الوطن...فأعاد لها هذا الوباء ثمرة الفؤاد وعطر الروح رحمةً بها كى تكتحل عيونٌ بكت طويلاً حنيناً لرؤيته ....
ولربما كان "كورونا" تلبيةً لدعوة "مسّن" يتوق شوقاً لبعضٍ من الوقت بصحبة أولاده الذين يسعون فى سباقهم المحموم وراء لقمة العيش...فأتى هذا الوباء "الرحيم" ليعيد تصحيح المسار ويرمم انكسارات روح هذا المتعطش لدقائق معدوات تعيد له عافية قلبه بساعاتٍ طويلة بصحبة حبات القلوب...
ولربما كان "كورونا" هو المودة المنشودة لزوجةٍ تقتلها الوحدة وينوء حملها بمسئولية أطفالها فى سنوات زواجٍ عجاف فى ظل غياب زوجها الذى يلهث طويلاً لتوفير متطلبات الحياة...فكان "كورونا" هو تلك السنبلات الخضر التى أعادت الخصب لحياتها وأكسبتها رونقاً وبهاءً...
"كورونا" جند من جنود الله أرسله سبحانه لمهمةٍ محددة...ربما كى تتوقف "هستيريا" هذا العالم قليلاً...ربما لإعادة هيكلة الحياة من جديد...
"وأنّا لا ندرى أشرٌ أريد بمن فى الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا".
فلنتدبر كما أمرنا الله...ولنعلم يقيناً مدى ضآلة العلم البشرى المحدود أمام علم الله المطلق..."فالله عالمٌ بما كان وما سيكون وما لم يكن إذا كان كيف كان يكون".
ولندرك أننا رغم ثورة المعلومات التى نحياها والتكنولوجيا غير المسبوقة، لا نزال مكتوفى الأيدى أمام هذا الڤيروس الضئيل الذى لا يرى بالعين المجردة.. عاجزين تماماً عن اكتشاف لقاحٍ له ..أو تصنيع الدواء الشافى الذى ينقذنا من براثنه !
"كورونا" سيؤدى مهمته وسيعود يوماً ما من حيث أتى بقدرة الله تعالى وبسر "كن فيكون" حين يأذن الله له بالرحيل...
فليكن "كورونا" دعوةً للتغيير وحث الخطى نحو عالمٍ أكثر إنسانية...وأجزل عطاءً...وأفضل وعياً وانتباهاً...
ولنستوعب الدرس جيداً...
ولنتدبر فى رسالة السماء إلى الأرض...
"لا تحسبوه شرًا لكم" .