يجلس على الرصيف المقابل للمقهى، يتفحص أدواته ويعيد ترتيبها بعد أن يتأكد أن مازال في العُلب الصغيرة بقية من دهانات، يتطلع إلى الصورة الملصقة على صندوقه المتسخ ويمسحها بيديه ثم يرسل عينيه للأفق البعيد ويحلم بالفتاة الجميلة التي تضحك في الصورة، يمد يد خياله إلى ملابسه الرثة فتتحول إلى بذة أنيقة، ثم يمرر يديه على شعره فيخلفه ممشطًا ولامعا، يمسك بالفتاة الجميلة ويجري على السحاب الأبيض برفقتها، يقطف لها غيمة صغيرة ويضعها في كفها ثم يُقبلها.
- يا أنت؟
- نعم سيدي، يقولها بعدما سقط من فوق سُحب خياله، وفقد جميلته.
- تعال اِمسح لي حذائي.
- أمرك سيدي.
يهرول حاملاً صندوقه ليجلس تحت أقدام هذا الرجل المُهندم ببذخ، ويمسك بالحذاء ويضعه فوق الصندوق، وهو يتعجب، فالحذاء أشد نظافة من كل دهاناته وفرشاته وصندوقه وثيابه المهلهلة، يعمل بكد وكأنه بالفعل يزيل ما علق بالحذاء من تراب، ينتهي من عمله ويلتقط أجرته التي رمى بها الرجل المهندم في حجره.
يسحب الصندوق ويعود إلى جلسته على الرصيف، والمارة يرمقونه باحتقار.
يقترب منه شاب في الثلاثينيات، يقف أمامه ثم يطلب منه الوقوف، فينحي صندوقه جانبًا ويقف، يسأله الشاب أن يستدير، فيفعل.
- أوه، هذا السروال يبدو مذهلاً.
- إنه قديم ومُهلل سيدي، ممزق فوق الرُّكبة من أثر جلوسي الدائم مُقرفصًا أمام الزبائن.
- لا لا، هذا القطع هو سر جاذبيته، انتظر لحظة.
ثم أخرج الشاب من سترته ورقة وقلمًا، ووقف يرسم السروال ويتقن رسم القَطْع في موضع الركبة، ثم الجيب الخلفي الممزق، ولم ينس أن يضيف الاهتراءات التي تتدلى من أطراف السروال، ثم قال:
- سيكون أحدث صيحات الموضة في أزياء الشباب هذا الصيف
- هل هؤلاء الشباب يعملون ماسحي أحذية؟
- بالطبع لا، ما رأيك أن أشتري لك سرولاً جديدا وتعطني هذا؟
ثم أخذه الشاب إلى أقرب محل يبيع السراويل واشترى له سرولاً جديدا وأعطاه بعض النقود.
عاد ماسح الأحذية إلى الرصيف، لكنه لم يستطع الجلوس، إذ خاف أن يتسخ السروال الجديد، وقضى بقية يومه واقفًا، من دون أن يأتيه زبون واحد.
وفي المساء جرَّ قدميه المتعبة من طول الوقوف وعاد إلى بيته، نزع عنه السروال الجديد وبحث عن آخر قديم كي يرتديه ويذهب به إلى الرصيف في الغد ليمارس علمه، لكنه تذكر أنه لم يكن يملك غير السروال الذي أخذه الشاب.