من حيث كنت أطل على الحياة من نافذة الموت.. كنت واثقًا من أنني سأصاب بالعدوى رغم كل التدابير الاحترازية التي كنت أتخذها قبل الخروج إلى العمل في الأيام المخصصة لي من قبل الشركة، تمامًا مثل سائق يطبق كل قواعد القيادة السليمة ولكنه لا يثق في قيادة الآخرين من حوله في الشارع.
وقد كان، وانتقاني الفيروس في لحظة لا أدري كيف، ربما من أحد العملاء أو الزملاء، الذي تعدى مسافة التباعد الإجتماعي المفترضة كي يبثني شكواه وفيروسه.
بالمناسبة، لا يجب الاستهانة بالتباعد الإجتماعي، فبحسب الأبحاث والتقارير الصادرة بشأن وباء الأنفلونزا الإسبانية عام 1918 ثبت أن التباعد الاجتماعي لعب دورًا كبيرا في الحد من انتشار الوباء، ولا يزال يعد واحدًا من أفضل الطرق لمكافحة الجوائح.
مرت أربعة أيام وبدأت أشعر بالأعراض التي هاجمتني سريعًا وطوقت جسدي بالآلام دفعة واحدة، فتواصلت مع الطبيب، الذي وصف لي الأدوية المعتادة لحالة كورونا واضحة ولا تحتاج أية تحاليل أو مسحات، وأوصاني بالعزل المنزلي والراحة.
كنتُ وحيدًا في البيت على أية حال لظروف عملي، وأسرتي تعيش في مدينة أخرى فهي آمنة مني! يا لها من جملة قاسية وشعور مُهين، أن يكون فراق الأسرة عنك آمان لها منك.!
على مدار 12 يوما منذ بداية الأعراض والألم حاولت أن ألتزم بالعلاج وتوصيات الطبيب بالراحة كي لا أضطر لدخول المستشفى، تحملتُ آلامًا مُبرحة في كل جسدي وخمولاً وهزيان، عشتُ لحظات كنتُ فيها قاب نفسين أو أدنى من الموت، لكن ثقتي بالله كانت هي رئتي التعويضية التي تمدني بهواء ما تنفسته في حياتي من قبل، كنت أتيمم وأصلي وأنا نائم، وأسبح وأنا على جنبي، وأسجد بأهدابي لله وأدعوه ألا تسوء حالتي أكثر وأضطر إلى اللجوء للمستشفى وأكابد تعاقُب الأطباء والممرضات عليّ وهدير صوت الأجهزة الذي قد يزيد من سرعة ضربات قلبي، وكانت رحمة الله أقرب من كل ذلك.
ما بين الإقامة في العزلة والانتقال بين الغرفة والحمام، وفي ظل الوحدة الموحشة إلا من زيارة جاري وصديقي الذي كنت أتصل به هاتفيًا لأخبره عن احتياجاتي من أدوية وطعام وأشياء أخرى يتركها لي على الباب ويغادر، وفي ظل هذا الفراغ الذي كان يملأ صدري وقلبي، والصمت الذي يرتع في المكان، كانت فرصة عظيمة للتأمل والتفكير ومراجعة الحياة.
خلال تلك الليالي، التي كانت أقل ألمًا، وأكثر صحوًا، شغلتني أسئلة عديدة أكثرها إلحاحًا: كيف لم نُقدر الهواء والماء والشمس حينما كانوا عطايا مجانية لنا؟.
أنا الآن أجد صعوبة في التنفس ولا أستطيع الحصول على ما يكفيني من الهواء رغم أنه حولي في كل مكان، وأستهلك الكثير من الماء لتطهير نفسي من الفيروس، وأخطب ود الشمس كي تدخل غرفتي لبضع دقائق لأنني لا أستطيع التحرك والخروج بنفسي إليها.
كيف لم أكن قبلاً ودودًا مع أهلي وأقاربي وأصدقائي وأقوم بزيارتهم ورؤيتهم رؤي العين، كيف كان وصل رحمي موسميًا مرتبطًا بالأعياد والمناسبات فقط، كيف سمحت للعمل والكسل أن يتخذا المقعد الأول في حياتي؟.
أنا الآن أشتاق للجميع، وأحنُّ للجَمع بهم، وأشعر بحرمان شديد، وبأن العمر قد ينقضي في أي لحظة من دون أن أشبع منهم قبل الرحيل، ومن المؤلم أن هذا الوضع سوف يستمر إلى ما شاء الله بناء على تعليمات التباعد الإجتماعي المفترض أنها ستطبق على الأقل حتى بداية العام القادم أو نهايته حسبما أوصت منظمة الصحة العالمية.
لا داعي لأن يقلق أحد بشأن صحتي، فقد وصلتني دعواتكم المخلصة أيها الأحباب من أهل وأصدقاء، فأنا بدأت أدخل مرحلة التعافي والحمد لله، قد اختفى الكثير من الأعراض وأشعر بتحسن كبير الآن، وأشكر كل من سأل عني، وكل من ساعدني نفسيًا ومعنويًا على عبور هذا النفق الطويل خلال ثلاثة أسابيع من الظلام والوحدة والصمت، مع طلب السماح ممن قصرت معهم خلال حياتي ما قبل المرض، مع وعدٍ بتعويضهم بالود والحب والقرب حينما يأذن الله ويرفع عن بلادنا هذا البلاء.