أيامي معها بالتحديد عام 1997 بالصف الأول الابتدائي، بداية علاقتي بها مع توقيت الأجازة الصيفية، يأخذني أخي الأكبر إليها، فكان موُلع بالقراءة أما أنا كنت أذهب فقط لاعتيادي أن أكون معه، هو يقرأ وأنا أرسم أو أشاهد عرضا مسرحيا لأقراني من الأصدقاء أو أرسم، وبالأحرى شخبطة عبثية لإهدار الوقت حتى يفرغ مما يقرأ، العامل الوحيد الذي ربطني بها هو أني كنت أحب ما يفعله، وافتخر به حينما كان يُقدم أحد أعماله اليدوية، لوحة مُـزخرفة، ولهذا أثر كبير في مهنته كمصمم حقائب جلدية، ومما امتاز به، دقته في الرسم.
هذه المشاركات من نَمّت لديه مهارة التصميم في عمله، بالطبع لم أتذكر هذه الرسومات بدقة ولكن حينما كبرت رأيت تلك التصميمات وأحببت منها فن الرسم كمتلقي له، وبعد وفاته عام 1998، انقطعت فلم تَعد لي صلة بالمكتبة، إلا بعد سنوات بعد انتقالي لمرحلة الإعدادية، والذى أعادني أن مدرستي الجديدة بجوار المكتبة، فعُدت إليها مرة أخرى، أنهي يومي الدراسى وأذهب فقط لأشاهد العروض المسرحية بحديقتها الصغيرة، الطريف فأيامي تلك أنها جمعتني مع أصدقاء مدرستي الابتدائية والإعدادية معًا، حتى الآن في عامنا الحالي كان لها الأثر الأكبر في حياتهم، منهم من أصبح طبيبا، والمهندس والكاتب، والصحفي بدرجة من الوعي والإبداع، واقعها في نفوسنا مازال له بُعد في شخصيتنا هواياتنا، فبجانب هذا من استمر بالقراءة والرسم وفنون عديدة والأهم نظرتنا للحياة تشَكّـلَتّ من كل ماذكرته، حتى أننا قمنا بتقديم مشروع لمكتبة المدرسة، وهي مجلة مدرسية اسمها " الرأي" وبالطبع لم يستمر أسابيع.
أما عن القراءة فكنت مُرغم أن أدخل قسم الأطفال، لكن الحنين يَدفعني لقاعة الكبار خِلسةُ، لها رونق خاص بفضل روفوفها الممتلئة بالأصول والمجلدات، ورغم أني لم أفهم منها شىء، لكن كنت أحب أن أفتحها، أستعيد الماضي، أجلس على نفس الكرسيِ الذي كان يجلس عليه أخي، وأختار هذه المجلدات الذي كان يفتحها، أتذكر أن مشرف المكتبة دومًا يرفض مكوثي بهذه القاعة، فكرهته؛ فهو لم يحجبنى عن القراءة التي لن أفهم منها شىء، بل كان يُحيل بيني وبين ذكرياتي الباقية من أخي، وظللت على ذلك حتى يأس مني وبلغ يأسه مبلغه، فأصبح لا يُبالي.
أتذكر مجموعة مصر القديمة "لسليم حسن" وهو يتحدث عن عصور مصر القديمة، يتكلم عن الأواني والحُلي والأدوات المُستخدمة في شتى أمور الحياة وأشياء غريبة، وأماكن تَغيِرت اسماؤها، هي بالطبع معلومات جديدة ومثيرة، والأشد إثارة أن منطقة طوخ بمركز نقادة بمحافظة قنا، بلدتي كانت عاصمة مصر القديمة، وهنا شعرت بفخر عجيب بلدتي عاصمة مصر، فكان مني إلا أني أتحدث عن هذا للجميع، حتى المارون بالشارع "وعم فوزي السماك" رحمه الله، وهناك مجلدات في التاريخ و شخصيات كـ سعد زغلول والملك فاروق وأشياء كثيرة وبالتوازي مع تلك الفترة كان هناك مهرجان القراءة للجميع، وفاعليات أولها رحلات خاصة بالمكتبة إحداها ضريح سعد ، واخرى بحديقة الأورمان، وشارع المعز، هذه الرحلات لها واقع بنفسى فأحببت الزهور وتعلقت بها والأن من أهم هوياتي الزراعة المنزلية، وشارع المعز الذي أصبح ملاذي.
وهناك تأثير على مستوى آخر تغير بسلوكي وتعاملاتي، هذه الرحلات معظمها مختلطة مع " بنات" وانا من أسرة صعيدية وتعاملي أكثر تحفظًا في هذه المسألة، لكن مع مرور الوقت أصبح فارق كبير في نظرتي للتعامل معهم ولهم، وحتى العروض المسرحية كان لها واقع بنفسى ايضًا، ثم بعد بدأت مرحلة الثانوية وتوقفت تمامًا، وبدأت فترة المراهقة وانخرط في مجرياتها، وموجة تدين مغلوط استمرت حتى دخولي " الجيش " وبعد نصيحة قائدي ان انوع قراءتي مع العلوم الشرعية حتى اتحرر اكثر، ربما هذا افضل، ومتابعة أحد الأدباء والمفكرين البارزين واعطاني روايته الشهيرة، وقال إنه يحاضر بمكان اسمه " ساقية الصاوي" وبالفعل لكي انوع، ذهبت إليها مجدد أقصد المكتبة، وفي نفس المكان، والكرسي و المجلدات.
يعاودني الحنين، وادخل لأجد إحدى رسومات اخي مازالت موجودة، وبالطبع سألت عن الساقية، واتسعت الدائرة، معرض للفنون اكبر، ندوات عامة اشمل، حفلات فنية، والأديب المطلوب سماعه هناك، لكن مازال داخلي نقيضان، الأول الحنين وما تربيت عليه، والآخر تدين دخيل متخبط جعلنى أرى الأشياء ببعض من النفور، حتى هذا المُفكر، اخذتني أقدامي للحنين أكثر فغلبت التدين العبثي الدخيل عليها، حضرت ندوات في موضوعات عديدة، بصالون الهجَّان للموسيقى، سمعت تلك المعزوفة التي كان يعزفها اخي رحمه الله" بالهارمونيكا" الحنين يطاردني هنا أيضا، معرض الفنون يذكرني بمشاركاته الأخيرة، حتى دخلت محاضرة ذلك الرجل الذي مقته مما سمعت عنه، إذا به: الماء الذى اروى ظمأ داخلي، وهدأ الصراع بين النقيضين الحنين لما رباني عليه اخي وذكريات مكتبة البوهي، وهذا الفكر المتعصب، فاخترت الحنين وارتبط بهذا المفكر، فهو لي طوق النجاه الثاني بالتوازي مع تلك المكتبة، وبدأت رحلة جديدة، وبعد مرور سنوات احببت الذهاب إلى تلك المكتبة إذ بها خَربة فقد أعلن الحي، هدمها من أجل مشروع مترو الانفاق بإمبابة، خسارة هذا المكان سيفتقده اجيال أخرى بمنطقتنا تلك، هُدمت المكتبة وهدمت ذكرياتي معها وهدمت أشياء أخرى رأيتها في عيون الأجيال الحالية، وسلوكهم اعلم ليس افتقادنا المكتبة العامل الرئيسي، لكن ترى لو استمر وجودها أو على الأقل استبدل مكانها كم ستربي وكم ستُصلح من الأمر، اتمنى ان تعود، فوجود مكان كهذا بحى بسيط وفي كل حي سيكون له الأثر كبير، بل وكل مدرسة إذا ما اخذت منوال هذه الأنشطة من مسرح وموسيقى وتثقيف عام، سيُحيي اشياء كثيرة هُدمت مع مكتبة البوهي..والله المستعان..