لمْ تكُن وحدها، كانت السَّاحة مُزدحمة بأخواتها وجيرانها، بينما هي شاردةُ الذِّهن مُنهمكة في التفكير، تتذكر كل شيء، عُمرها القصير منذ بدأ، لحظات العطشِ والاحبَاط والانكسار، لحظات السَّعادة القليلة التي كان مصدرها الشمس، وهؤلاء الذين يمرون عليها من وقت لآخر، يتشمَّمونَ ثيابها ويرحلون، كانوا كُلهم غُرباء وملامحهم أغرب، والخوفُ يُثقل كاهلها كلما اقتربوا، ليس لديها الجرأة كي تلملم ثيابها وترحل عنهم بعيدًا، فهي لا تملك إلا قدمًا واحدة مثبتة حيث تعيش.
تغوص في شرودها أكثر فأكثر لتعود بذاكرتها إلى أيامها الأولى، عيناها مُغمضتان والرِّيح أقوى منها والشَّمس أثقل من قُدرتها على احتمال وحشة الأسئلة المنهمرة على رأسها الصغير، فهي ببساطة لا تملك حق تغيير مكانها أو الاختباء من طنين الأصوات التي تحاصرها من آنٍ لآخر طمعًا في رحيقها.
وفي صباحٍ جميل شديد الضوء استطاعت أن تمد أجنحتها كطائر اشتاق عشه، كانت تتنفس عطرًا وتنشر شذاها في الأنحاء، تزداد تفتحًا وتزهو بلونها الباهي، رغم أن الجوار كان محبطًا لا شيء به جديد، كانت تشعر بالحرية وبأنها تستطيع الطيران، لكنها لم تفعل لأنها كانت مُكبلة، مشدودة إلى حيث نشأت وكبرت وتفتحت، نظرت حولها بأسى، وجدت كل جيرانها مُكبلين مثلها تمامًا، زحفت ببطء شديد إلى اليسار قليلا ليردّها الهواء بحزم إلى حيث كانت، نظرت إلى أسفل قدمها الوحيدة لتتأكد أن المكان كافيًا لموتها، كانت تشعر بأنها النهاية حين اقترب منها ظلُّ إصبعٍ، وقبضت عليها يد غريبة لترفعها إلى الأعلى وتمتص منها كل الهواء ثم تلقي بها لتتناثر أشلاء، سَحقها على الأرضِ فيما بعد.. حذاء عابر.