مازال الوجدان الشعبي المصري يكتنز ذكري أسطورة "عروس النيل" تلك الفتاة الجميلة التي تهب نفسها للنيل طواعية فتلقي بنفسها فيه مع بشائر قدوم الفيضان الجديد حتى يجود بخيراته على أرض مصر محملا بعوامل الخير والوفرة.
ويحتفظ سجل الحكاوي بقصة البنت البكر التي يتم اختيارها ثم إلباسها أفخر الثياب وتزيينها بأثمن الحلي حتي يتم القاؤها في النيل مرة كل عام إرضاء للنيل مع مجئ الفيضان الجديد.
لم تتبق ممن تتوفر فيهن المواصفات المطلوبة لهذه التضحية إلا ابنة الملك نفسه، فيروي أن وصيفتها قد صنعت دمية على قدها وشكلها وأخفتها بالثياب، فلما ألقيت الدمية فاض النيل كعاده فأبطلت من ثم عادة العروس البشرية واستبدلت بالدمية على شكل فتاة جميلة تزين للنيل ثم تلقي فيه في احتفال كبير.
كما تنقل عن التراث الإسلامي قصة مروية حول رسالة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى واليه على مصر عمرو بن العاص بهذا الشأن مرفق بها رسالة مطوية لتلقى في النيل، مفادها خطاب موجه للنيل أنه إذا كان يفيض من عنده فلا حاجة له وإن كان يفيض بأمر وتقدير من الله سبحانه العزيز فلا احتياج عندئذ لإلقاء فتاة في النيل قربنا له كي يجود بعطائه السنوي.
هل كانت تلقي في النيل فتاة أي عروس بشرية حقيقية كقربان أو زوج للنيل مع بشائر الفيضان مع مطلع العام الجديد؟
إجابة هذا السؤال تحير فيها المصريون دائما، والحقيقة الثابتة عن بلدنا الجميل الطيب أن ضمير شعبه اليقظ لم يقبل يوما فكرة التضحيات البشرية رغم أنها كانت سائدة ومعمول بها في معظم الحضارات القديمة.
كما أن المصريين قد كانت لهم تصورات ثلاثة عن كيفية ولادة فيضان النيل، فجغرافيا نظروا منذ الماضي السحيق إلي الجنادل الصخرية جنوب أسوان باعتبارها آخر نقاط الحدود المصرية فتخيلوا أسفلها كهفا عميقا تحت صخورها يقبع فيه المعبود خنوم سيد منطقة الشلال ورب منابع النيل، ومن هذا الكهف تتدفق مياه الفيضان وهذا هو التصوير الاول.
والتصوير الثاني كان عن مسئولين المعبود أوزيريس رب الخصب وسيد عالم ما تحت الأرض عن خروج النيل.
والتصوير الثالث فنتج عن ترجمة العلاقة بين فيضان النيل وطول الأمطار حيث وقر في وجدانهم أن معبوده بهيئة بقرة ضخمة تدعي "محت ورت" كانت تسكن السماء وتتسبب بمطار الخير مجىء النيل.
كما أن نشأت فكرة إلقاء تماثيل أنثوي مع تماثيل حعبي وهو الرمز المقدس للنيل كقربان وهدايا في مقايس النيل إنها تماثيل لمعبوده تدعي "ربيت" قرن المصريون بينها وبين النيل فاعتبروها قريته واعتبروا امتزاج وغمر مياه الفيضان للأراضي الزراعية المصرية وما ينالها من إخصاب من جزاء ذلك إشارة رمزية لاقتران "حعبي" بزوجته أو عروسه "ربيت" وسط مظاهر الفرح الغامرة والبهجة الطاغية.
إذن تماثيل "ربيت" عروس النيل التي كانت تشارك في هذه الاحتفالات الكبرى بوفاء النيل كل عام. فمن هي ربيت هي ببساطة صورة مجمعة من ربات مصريات كبريات ثلاث هن "إيزيس" زوجة أوزير رمزا للوفاء ومساندة الشرعية و"حتحور" المعطاءة رمز الخصب والنماء وربه الجمال والبهجة والمعبودة "نوت" الربع الكبرى للسماء بحسب المعتقدات المصرية القديمة.