كل ما يمكنني سماعه الآن هو صوت أنفاسي التي أدخلها وأخرجها ببطء، وكأنني أفعلها بحرص لئلا يتصدع قفصي الصدري.
أحاول سحب جفوني لأعلى؛ منتفخة، وثقيلة جدًا كأن بداخلها رملًا. يبدو أنني بكيت البارحة حتى آخر قطرة. يشد انتباهي شيء ما يقبض على إبهام يدي اليسرى بينما آخر يقبض على يدي اليمنى كلها. أسمع همهمات حولي ولا أفسرها، أصوات أعرفها، وثمة اسم ينطق مثل اسمي.
أشعر بالضوء خارج أجفاني، وأتساءل كيف للصباح أن يحل بهذه السرعة؟
فقد كنت منذ دقيقة واحدة أخلد إلى النوم في منتصف الليل. ولا أظن أن يحل الصباح محل الليل لأجلي، أن يأتي متلهفًا ليزيل الأسى، لا يهمه من الأساس أن يفعل، خاصة لعلمه أنني آنست الليل وأحببته أكثر منه ومن أمله الكذاب. أحاول أن أتكلم، ولكن محاولة فتح شفاهي أشبه بدفع عربة محملة بالطوب بذراع واحد. حتى أنني لا أشعر بلساني، حاولت تحريكه ولكنني لم أجده. مرعب أن تبقى في كامل وعيك بينما يصر جسدك على تصرفات الموتى.
أكان هذا شعورهم حقًا؟ ربما.
قدمي تؤلمني، وركبتاي، أستطيع أن أراهم الآن وأنا مغمضة العينين وقد زاد فيهم اللون الأزرق، زاد وزاد حتى تصلبت الأوردة، أو هكذا أظن. ربما سلكت بالأمس طرقًا طويلة وكان عليّ ألا أفعل. جسدي يؤلمني وكأنني خضت حربًا أنتهت لتوها.
أسمع اسمي مرة أخرى، وأنجح في فتح عيني قليلًا، أرى خيالات لشفاه شاحبة، سقف أبيض، ملاءة بيضاء، وذراع يهز جسدي، ويد تقبض على يمناي في رقة وذعر، وصوت لشيء يصدر نغمة بطريقة منتظمة رتيبة.
أصر على فتح عيني أكثر ثم أسمع سؤال بنبرة فزعة:"أنتِ كويسة؟"
أبتسم وأنا أحاول أن أشد صوتي من الأعماق وأجبر لساني على الكلام فتخرج أحرفي متلعثمة وممطوطة كسكّير:"كووييسااة"
-"تعرفي أنا فضلت قد إيه مستنية تتكلمي؟"
يتمكن الخدر من جسدي مرة أخرى فلا أجيب..
أسمع خطواتهم تغادر بعد أن كانت تلتف حولي طيلة الوقت الذي لا أعرف كم استغرقت منه بهذه الحالة، فأرجع مرة أخرى إلى كامل وعيي كبوح صامت بضجري لتركي بمفردي. أسمع صوت يخبر إحداهن بضرورة وضع المحاليل والتأكد دائمًا من عمل جهاز القلب ومشبكه المعلق بإبهام يدي اليسرى.
جهاز القلب!
لطالما كان قلبي قويًا، وصبورًا، ويملؤه الأمل. قلبي الذي كنت أظن أنه خلق من ذهب، ويسري في شرايينه دمًا محمل بالورود، ويضخ المحبة بلا إنقطاع،
ماذا حدث له؟!
في المساء أنجح في تفقد المكان بنصف عين، غرفة مضيئة بإضاءة خافتة، وطاولة صغيرة عليها علبة عصير مفتوحة منثور عليها بقايا شيء أسود، والعديد من علب العصائر والحلوى وكأنني استلقي بجانب كشك عم عبده.
أعتدل أكثر فأشاهد عينين جميلتين، تنظران إلي بحزن شديد من أسفل بطانية كالتي فوق جسدي. أبادرها بابتسامة متعبة؛ تسحب رأسها لأعلى حتى تظهر شفتيها وترد بواحدة مثيلة. نتبادل النظرات في صمت، نظرات يتخللها أسئلة لا نقوى على قولها، وربما لا نود. تأتي امرأة منتقبة تجلس على طرف سرير صاحبة العينين الجميلتين، وتزيح عن وجهها نقابه فأدرك التشابه بين ملامحهن، ثم تبدأ بالحديث.
-"بقى كده يا صباح تعملي فينا كده؟"
="غصب عني ياختي"
-"غصب عنك إيه أنتِ ماتلغبطتيش في دوا أنتِ بلبعتي العلبة كلها"
="خلاص بقى يا صفية"
-"طب قومي جيبالك ساندوتشات إلحقي كُلي قبل ماتاخدي العصير بالفحم خليه يشيل السم اللي في معدتك ده"
وقبل أن أخبئ وجهي هروبًا من الثرثرة تقول:"قومي أنتِ كمان ياختي كُلي معاها".
أحرك رأسي رافضة وأنا أحاول أن أبتسم، فتكمل:"هو إيه اللي لأ قومي يا حبيبتي ناكل مع بعض أنا عامله ساندوتشات كتير قومي قومي". تساعدني في الجلوس، ثم تضع في يدي واحدًا، وتنشغل بالحديث مع صباح.
أقارن حالتي بصباح، القنيّة الطبية (الكانيولا) ذاتها، المحاليل، جهاز القلب، علب العصائر المفتوحة المصبوغة بلون أقراص الفحم.
واتساءل:"هل ابتلعت سم مثل صباح؟!".
أنا لا أتذكر شيئًا!
تأتي سناء الممرضة الخمسينية وبيدها أقراص الفحم، وتخبرني أن الطبيب بإنتظاري، وعليّ أخذ الجرعة سريعًا.
أتعجب من ذهابي لغرفته وليس العكس!
فتضحك بسخرية ثم تقول:"أنتِ في القصر العيني يا ماما.. حكومي ياختي". أتكئ على يديها وأسحب جسدي إلى طرف سريري؛ ترتعش قدمي كامرأة عجوز لا تترك فراشها إلا قليلًا. أسير في الطرقات المقبضة بينما ترتعش الإضاءة كقدمي حتى أصل إلى غرفة الطبيب.
طرقت الباب مرتين ثم مددت يدي إلى مقبضه البارد، دلفت إلى الداخل، وأغلقت الباب خلفي بأطراف أصابعي، بينما لا أبصر سوى قدمي. ألقيت التحية، وتقدمت نحوه؛ طلب مني الجلوس على الكرسي المقابل لمكتبه. جلست وأنا لا أشعر بشيء، لا أشعر بالتوتر الذي حتمًا كان سينتاب غيري. يتسلل الحزن إلى داخلي مجددًا؛ ليس من السهل أن تخبر أحدًا بأسرارك، أن تكون مضطرًا إلى ذلك، خاصة وإن كنت تلتقيه للمرة الأولى.
رفعت عيني فوجدته ممسكًا بورقة وقلم.
- اسمك؟
= أشرت له بعيني إلى الورقة التي تركتها له الممرضة.
- إزيك؟
= ابتسمت ابتسامة منهكة ثم أردفت:"كويسة"..
- عندك كام سنة؟
= أشرت له بثمان أصابع ثم اثنين..
- إيه اللي حصل؟
=....
لم أجد إجابة مناسبة، ولا أريد التحدث، أريد إنهاء المقابلة الآن كعادتي مع كل اصطدام بكل ما هو خارج غرفتي.
- بتحسي بإيه طيب؟
= عاوزة أنام..
تصيبني نوبات من الأرق طويلة، والبكاء الشديد أيضًا. أسمع أصوات أعرفها تناديني بوضوح، وعندما أنتبه لا أجد أصحابها. أشعر بضيق لا يغادر صدري إلا قليلًا، ضيق يتمثل في هوة فارغة بالمنتصف، كنت ألجأ في الماضي إلى الأكل بشراهة حتى أسدها، حتى يصيبني الخمول فأنام، فكنت أنجح تارة، وأفشل تارة، وتتسع الهوة. أما الآن فأكبح جماح شهيتي، مما يزيد الأمر سوءًا. غرفتي دائمًا معتمة، أمكث بها مدة قد تصل إلى شهر دون الخروج سوى للطعام أو قضاء الحاجة. ضوء النهار يشعرني بحزن، تحديدًا الظهيرة تذكرني بالحروب، أكاد أسمع أصوات دانات، وأرى رمال صفراء، وملابس عسكرية، أكاد أشعر بالعقارب السوداء والثعابين تلدغني في كل جسدي. لا أطيق مجالسة البشر، وإن فعلت تلح عليّ الرغبة في الفرار. لا أبادر بالتعرف على أحد، وإن حاول أرد بإقتضاب يجعله يفر هاربًا.
يخبرونني بأنني شديدة الحساسية، أغضب من أمور لا تستحق، بينما أراها تستحق. أقلق من نومي إثر ضيق في التنفس مفاجئ، ثم ألهث وكأنني أركض. لا أتوقف عن التفكير، لا أتوقف حتى وأنا نائمة. أظل أفكر حتى يؤلمني نصفي الأيسر بأكمله، ويهرب الدم من عروقي فأشعر بألم يجتاح عظام جسدي. أضغاث أحلام، كوابيس، تقلبات مزاجية سريعة فأعيش في الساعة الواحدة تنقلات متطرفة بين الفرح والحزن. أشعر بالضيق في كل مرة أستيقظ لأنني مازلت أحيا، لا أقدر على إنجاز أبسط الأمور؛ غسيل الأسنان، الاستحمام، تمشيط شعري.
شعري..
كان طويلًا جدًا، ولكن لم تترك الأفكار لي مجالًا لأدعه هكذا. كانت تأكل في رأسي، بينما أحاول إسكاتها بتمرير أصابعي بين خصلاته بكلتا يداي. كنت أشعر وكأن شعري يحوي أشباحًا تخيفني، ظللت أقصه لأطرد الأشباح، حتى غدوت بلا شعر تقريبًا كالمعتقلات في السجون. أنا محاطة بالكره، كره لو قصصته عليك لتعجبت من قدرتي الفائقة على المحبة. أحمق من قال أن فاقد الشيء لا يعطيه "ببزغ". لا أقدر على العمل، أشعر بالإنهاك سريعًا، أشعر بالضغط، يؤلمني جسدي حتى أستسلم وأستقيل. لا أطيق سماع الموسيقى، أو مشاهدة الأفلام، أو القراءة. عملت في مهنة تستوجب الجلوس أمام الحاسب الآلي مدة لا تقل عن ثمان ساعات يوميًا حتى تضرر نظري. ومع البكاء المستمر تدهور الحال كثيرًا فأصبحت القراءة بالنسبة لي ما هي إلا شيء سيلحق الضرر بنظري أكثر وأكثر مع الأسف.
- أنتِ عارفة إن عندك إكتئاب؟ بنت حلوة في سنك لازم تبقى بتحب الحياة.. أخبارك إيه مع الحب طيب؟..
دعني أخبرك شيئًا عن الحب.. معذرة.. أعلم أنها جملة مكررة، ولكنني أصبحت لا أرى في الحب سوى نهايته المأساوية التي بالتبعية لن أتحملها وأصبح هنا، بالقصر العيني، ملقاة كجثة هامدة بين الأدوية، والمحاليل، وجهاز القلب، ولا أقدر على قضاء حاجتي بمفردي. الحركة بحساب، والكلمة تحتاج إلى جهد. أصبح الحب بالنسبة لي قلب مشتعل كالجمر من أثر الفراق، وجسد تصيبه حُمَّة شديدة بلا سبب عضوي.
الحب هو الصبر والتحمل في مقابل اللا شيء، والشعور دائمًا بأنني لست كافية. أن أتأرجح بين الضدين بمنتهى البساطة؛ السعادة والحزن، النشاط والخمول، الصحة والمرض، الإقبال على الحياة والزهد فيها، الشراهة وإنعدام الشهية.
أنا ابنة الوحدة والحزن.
الابنة التي حاولت كثيرًا أن تعق والديها، ولم يسمح لها القدر. بت أرى الرجال خذلان وخيبات أمل تسير على أقدام. لا أقصد أن ألوم أحدًا، لا أقصد أبدًا، ولا يصح أن نلم على شيء لم يعدنا أحد به، وأعتقد حتى وإن وعدنا، كسرة القلب واحدة ولا تعطي أي ابن وسخة لما يراه العقل.
لم يحبني رجل يومًا، وأعتقد بإنه لن يحبني، لست جديرة بالمحبة. ينجذبون إلى الملامح، ومن ثم يتفاجئون بالخواء بعدها، وبالملل.
ينادي الطبيب على سناء لتعيدني من حيث أتيت لأنني لا أجيب. الخطوات التي يصحبها قلب مكسور ثقيلة للغاية. أصل بينما أجد صفية مازالت إلى جوار صباح. أنا منهكة، أريد أن أصرخ ولكن قلبي لا يتحمل، أريد أن أهشم رأسي بالحائط الذي خلفي ولكنني لا أستطع الوقوف بمفردي. أنا حزينة لأنني مازلت أحيا، حتى أنني لا أقوى على البكاء؛ هذا يتطلب جهد أيضًا.
انتبهت صفية إلى أنني لم آخذ قضمة واحدة من الساندويتش الذي أعطيته لي، فنظرت إليّ مشيرة بيدها بطريقة تحثني على الفتك به، وقبل أن أقضم قالت:"معلش يعني ياختي ولامؤخذه في السؤال بس أنا حبيتك لله في لله وباعتبرك زي صباح أختي، إنتحار بردو؟"
=...
-"أنتِ مش عارفة إن الإنتحار حرام ده أنتِ في عز شبابك يا بنتي".
تخلق كلماتها بداخلي إعصارًا.
يبدو أنني تذكرت أخيرًا.
لقطات يضيء بها عقلي؛ أراني الآن أبكي، أسير بخطوات مترنحة إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار، لا أرى شيئًا، رغبة في الهرب، ألم بنصفي الأيسر بأكمله، ضربات قلب شديدة، لهيب في جوفي، ضيق بالتنفس. يبدو أنني تذكرت ما حدث.
فأجهشت بالبكاء.
تربت صفية على كتفي وهي تعتذر:"والنبي ياختي ماكنت أقصد، يقطعني، اهدي طيب، وفضفضي ماتكتميش في قلبك".
نعم، تذكرت يا صفية، ابتلعت بالأمس شريطًا كاملًا من مهديء تريبتيزول الخاص بي، قرصًا تلو الآخر في هدوء وإصرار شديدين. عشرة أقراص منعني عن زيادتها ظهور الأعراض الجانبية. لطالما أعتقدت أن مرور شريط الحياة أمام أعيننا في مثل هذه الأوقات "كذبة سيما". ولكن أخذ عقلي يبث محطات حياتي أمام عيني سريعًا كوداع أخير؛ أرى جدتي في صورة فوتوغرافية تضحك وهي تعلمني أولى خطواتي، أختي تدندن أغاني الثمانينات، أبي يوبخني على عدم زيارة جدتي، أسمع أمي تناديني، تصفيق أقراني بالمرحلة الإبتدائية لقرائتي الصحيحة لدرس باللغة العربية.
تمنيت أن أنهي الألم، آن الأوان أن ينتهي، ولكن القدر لم يمنحني حتى هذه الفرصة.
تعطيني صفية مانديلًا؛ أكتب عليه تاريخ اليوم، الثالث عشر من ديسمبر عام ألفين وثمان عشر.
ثم يدق هاتف صفية..
"خطوة.. يا صاحب الخطوة.. خطوة.. إمشيلي لو خطوة.. ده أنت ع القلب ليك سطوة"
-"أيوة يا أمّا.. حاضر جاية أهو.. آه كويسة".
تتركنا صفية، وتعدنا أن تأتي في الصباح، وهي تلعن إدارة المشفى التي تمنع المبيت، ثم يأتي ميعاد الدواء ثم النوم، فتقوم الممرضات بإغلاق إضاءة الغرف، والتجمع للثرثرة.
مع حلول الفجر، أشعر بشخص يجلس على طرف سريري، هيئته توحي بأنه رجل، شعره أسود غزير وناعم وطويل بعض الشيء، يتخلله القليل من اللون الأبيض، ذقنه مهذبة، عيناه واسعتان بأهداب طويلة شديدة السواد، شفتاه مرسومتان بدقة، حاجباه ناعمان، جسده متناسق رائحة العود الزكية تنبعث منه، شديد الوسامة، هيئته كهيئة الأنبياء، ربما أرى حرج في أن أشبهه بعيسى عليه السلام. يمد لي يده، بإبتسامة عذبة، بينما تمتد يدي المرتجفة في حذر. تقترب يده وتقترب يدي أكثر ثم يهم بالرحيل وهو يمد يده كإشارة منه أن يترك لي مسألة الإقتراب اختيارية، ويسير ببطء وهو يحثني على الوقوف، والسير، لكي أتبعه نحو النافذة.
سرعان ما يختفي، أفتش عنه بعيني في كل مكان ولا أجده.
يصيبني الحزن مرة أخرى؛ الفقد السريع يأجج المشاعر ويجعلها تصل إلى ذروتها، دون أسباب منطقية.
أين ذهب؟!