أنا الطفلة التي أبكتها صورة الطفل القتيل بين أحضان والده، فندَّدَت وشجبَت وقاطعَت ظنا منها أن بكلمتها وقروشها القليلة سيمكنها تغيير العالم.
أنا المراهقة التي استيقظت ذات يوم على كابوس غزو العراق، وتعجَّلَت انتهاء يومها الدراسي لتهرع إلى منزلها وترى بعينيها من خلال شاشة التليفزيون الكابوس يتحقق بين تدمير وحرق للتراث الذي لطالما سمعت الحكايات عن أصالته وعراقته، وتحطيم تمثال حاكم البلاد لتدرك لحظتها أنها بداية النهاية.
وأنا ذات المراهقة التي عند اغتيال رفيق الحريري أخذت تجمع بحرص واهتمام بالغين كل الصحف التي تحدثت عن الأمر لسبب هي نفسها كانت تجهله، ولكن عندما تكرر الأمر باجتياح 2006 أدركت أنها أرادت أن تعرف المزيد عن ماضي وحاضر وطن من شدة ولعها به لطالما شعرت أنها تنتمي إليه.
أنا الفتاة اليافعة التي شهدت الربيع العربي وانتفاضة الشعوب العربية كافة مطالبة بحريتها، لتنالها تونس، وتحارب من أجلها مصر حتى الموت، ولكن ضاع الحلم واندثر بسقوط سوريا الحبيبة.
وأنا الأم التي جلسَت تشاهد عبر نشرة الأخبار انفجار مرفأ بيروت المروِّع بقلب مكلوم تعصره الحسرة على كل قتيل وجريح، متضرعة إلى الله أن يعود كل مفقود سالما إلى بيته، وغصة في حلقها حالَت بين صوتها والكلمات التي امتلأ بها قلبها فزادته فوق ثقله ثقلا، تلك الكلمات التي وقفت على لسانها ولكن هول المشهد جعلها تبدو خاوية للغاية، فابتلعتها وآثرت الصمت.
وسأكون الجدة التي ستظل تحلم دائما أن يحيا أحفادها في وطنهم بأمان، أن يصلوا في ساحة المسجد الأقصى وينهلوا من نهر الفرات، أن يصعدوا جبال لبنان الخضراء ويزوروا حريصا ويتجولوا في سوق الحميدية.
مرت سنوات كثيرة، ومع كل فاجعة يمر الشريط أمام عيني كاملا بألمه وحزنه، ومرت أحداث أكثر جعلتني في كل مرة أتساءل من أنا؟ هل أنا من علَّقَت مفتاح دارها في عنقها على أمل الرجوع، أم أنا من خسرَت منزلها قي بيروت، أتراني فقدت عراقي ذات يوم على يد الطغاة، أم أني الحلبية التي نزحَت سيرا على الأقدام بينما السماء تمطر من فوقها قذائف وصواريخ؟ فلطالما شعرت أنني متعددة الانتماءات، يوما فلسطينية ويوما آخر سورية، تارة لبنانية تارة عراقية، ولكني في ذات الوقت لطالما كنت مصرية.
سنوات أرهقني فيها التفكير قضيتها وأنا أبحث عن الإجابة، واليوم فقط عرفت الإجابة جيدا وعرفت من أنا.
أنا كلهن في آن واحد، أنا المرأة العربية التي أنهكها الفقد وأرّقها الخوف، جذوري ممتدة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، راسخة في باطن الأرض، أرض أمتي العربية، التي رغم الفقد والخوف، رغم الألم والأزمات المتتالية، ستظل شامخة أبيّة، أنا المرأة العربية رأسي مرفوع وقلبي موجوع، عاتقي أنهكته الأحمال وساعدي يضاهي سواعد الرجال، وكما ستظل بلادي رغم الكبوات والنكبات في عيوني أجمل الجميلات، سأظل أنا متمسكة بالأمل وحقي في الحياة ما حييت ومهما كلّفَني ذلك.