حقاً المرعب فى هذا الإدراك، أنَّ ما هو مخيفٌ فى الحياة.. يحدث بهدوء وبشكلٍ طبيعىّ.. ككل انتكاسة سقطتُ فى عمق هاويتها.. يحدث وكأنه تجرد من كل شىء بعد كان ينتمى إليه حتى الزمان.. لكن إدراك الحقيقة فى حد ذاته شىء لم يحظ الكثير بتملكه واستيعابه أو لم يحظ أحد أيهما أقرب.
والحقيقة أنه لا حقيقة.. لا يمكن للمرء أن يصل إلى نقطة يعدها النهاية أو الغاية.. كل شىء يتمدد نحو اللانهاية، نحو التبعيض، نحو التجزئة، نحو الخمول، نحو الفناء، نحو اللا شىء.. هكذا سوف تكون نهاية الجموع على حد سواء.. لكن على المرء أن يبحث عن قسط من الحقيقة يحقق له شىء من الرفاهية المزيفة، يكفيه كى يُعايش الكون والحياة والأشياء والأشخاص، يتكأ عليه حيث الغفوة، حيث الصحوة، غفوة الضمير، وصحوة التحمس المتثاقل.
يجب أن يزيل السترة عن بعض الأسرار ويستبدلها ببضع ثوب معلن من الحقيقة. يحيكه من لُفافة الوعى المتراخى فى رأس يعتريها الجمود والتكابر وأشياء أُخرى يليها الجنون والبارانويا والنرجسية وثنائى القطب.
احجب عن ناظريك ذلك الشىء الذى ربما يبعث فى الأشياء من حولك الحركة والتحرك .. والعدم يتمركز فى لب هذه الحقيقة، يُشكل جزءا كبيرا منها.. يبعث فى كل شىء حى حمية تودى به إلى حتفه، يَبتلى صاحبه بالباركنسون غير الملحوظ... حيث يصاب برعشة اليد عند الكتابة، الأكل، تقليم الأظافر حمل الأشياء ونقلها لغير مكان.. ينتشر مثل الوباء فى الجسد ويخدر كل خلية يصل إليها.. يعبث مع كيمياء الدماغ ويتلف الأعصاب.. يجعلك بلا روح، بلا مشاعر، بلا آت ترنو إليه، بلا ماضٍ يحدد هويتك.. يجعلك تستخدم حواسا غير الحواس، تتمرد على كل شئ حولك حتى نفسك والقدر.. هذا الصوت يدنو كل يوم حتى أفقدنى كيانى وكينونتى.
وهناك صوت آخر يختلس بضع ثوان يكون فيها اليأس متغافلا أسمعه وأنا أشكل النجوم بيدى فى الحلم، وأنا فى حضن أمى، وأنا مع صديقى المقرب، ونادراً ما يأتى وأنا وحيد متيقظ أو مستفيق.. هذا الصوت أعتقد لا يخضع لقوانين الصوت، ينتشر فى جميع الأوساط.. لا ينكسر، لا يحيد... أسمعه من على بعد أميال، أستطيع استيعاب مئات الكلمات فى شطرة صغيرة من الثانية.
هذا الصوت يسعى دائما لتحفيزى، يحاول جاهدا ليشكلنى غير هذه النسخة المتآكلة.. أشعر وانا اسمعه بكل معنى لكل شىء قد تواجد وربما سوف يتواجد.. وكأن مع كل كلمة تخرج منه يخرج معها لونا جميلا يلون أحداثا كنت ارجو حدوثها، أشخاصًا قد بهتو منذ وقت لم يبدأ الا لينتهي. أشياء فقدت بريقها.
هذا الصوت لا يعتمد المساومة، لا يؤمن بتبعيض الحقائق، يسعى دوما نحو الكمال، ليس الكمال فى النقصان كما الصوت الأول، ولكن الكمال نحو حقيقة تكامل الأشياء بأشياء أخرى.. لا يوجد كمال لشىء مطلق لكن يمكننا أن نكمل الأشياء ببعضها البعض حتى نصل إلى نسخة يمكن أن نرتضيها.. أستطيع أن أرى أحلامى وأمنياتى على غير العادة مرتبة منظمة فى أرشيف مرصع بنوتات تحوى كلمات يمكنها أن تداوى كل جرح سببه الزمن والقدر والأشخاص.. هذا الصوت يجعلك تستشعر سبب وجودك، هذا الصوت يجعلك تداعب المستحيل وانت فى طريقك إلى حلم لم تصل إليه بعد ! يجعلك تشعر بتراقص الفراشات فى معدتك، يجعلك إنسانا !
لكم أتمنى أن يتأبد الأبد ويصبح هذا الصوت أزليا ويستعمرنى بكل ما لم يكن أنا، بكل ما أستحقه وما لا يستحقني.. بكل ما فقدت من نفسي، بكل مصير سودوى أستثقل حمله، بكل مجهول يخيفني، ومعلوم يأكل روحي، بكل جملة لم أقلها تختلج ضلوعى وأخرى قلتها فى زمان غير مناسب لأشخاص لا يجمعنى بهم تآلف .. لكم أخشى أن ينتصر الصوت الأول واسقط فى هاوية ذاك القبو المشؤوم ! لكم ترعبنى حقيقة تواجد هذين الصوتين فى داخلي.. من سيفوز يا تري.؟ هل الصوت الأول؟ وبذلك سوف اصل إلى نهاية بداية تكوين روحى ونفسى ومشاعرى واكمل طريقى نحو لا نهاية الألم والعدم... أم مع الصوت الثانى لتنتهى نهاية اللانهاية وابدأ من جديد نحو بداية متأبدة لا تنتهى الا لتبدأ ولا تبدأ إلا لتتأبد.