رؤيا المنام عظيمة، والأعظم إذا كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، بعدما توفى النبي غادر المدينة، لم يستطع المكوث فيها، وكيف ذلك وكل ركن فيها يذكره بموقف للنبي، بحديث، بجلسة؟.
لم يستطع البقاء، لما مات أظلمت المدينة، لما مات أنكر الصحابة قلوبهم، لما مات كانوا يتذكرونه صباح مساء، كان بلال مثل العندليب صوته حسن ولا يظهر إلا في الربيع حتى يعلو هَزْاَرُه "صوت العندليب"، والىن انقضت كل فصوله الربيعية بانتقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، فلم يعد لصوته وجود وأَسْرَ الحزن، وتساقطت أوراقه، وبهتت ألوانه وذبلت أغصانه.
ارتحل إلى أرض الشام تلك البقعة المقدسة، إلى "دارية" تحديداً بجوار دمشق، تزوج واستقر بها. استيقظ ذات يوم يبكي، وما يُبكي بلال إلا عظيم، سألته زوجته: ما يبكيك؟ قال: رأيت رسول -الله صلى الله عليه وسلم- البارحة.
بلال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام يقول يا بلال ما كل هذا الجفاء أما آن لك أن تزورنا؟!
من فوره أخبر زوجته وأعد رحاله ورجع المدينة، من الطالب؟.
إنه رسول الله أعظم المحبوبين من خلق الله كلهم، أحب الخلق إلى قلبك.
كيف لا يشتاق إليه وقد اشتاق إليه الجماد، حن إليه الجذع وأنَّ من البكاء، وهذا ثوبان مولاه كان قليل الصبر عنه، يشتاق إليه كل يوم، جاءه يوماً وقد رأى في وجه تغيراً فقال: (ما غير لونك)؟، فقال: يا رسول الله ما بي من مرض ولا وجع غير أني إِذا لم أرك اشْتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ووالله إنك لأحب إلي من نفسي وأهلي وولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك.
والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني جالس في أهلي. قالها زيد -رضي الله عنه- كانوا عاشقين له حتى بلغ العشق منتهاه.
وقف بلال على قبر النبي يبكي، يفتقد حبيبه وقرة عينه، وونيسه، وناصره، يفتقد رسول الله. يتخبطه الحنين للأيام الخوالي، وقت كان رسول الله بينهم، كلما تذكر كلما ازداد بكائه، أثناء ذلك جاءه أبو بكر الصديق وسلم عليه وعرف منه حاله، وطلب منه أن يؤذن كما كان يؤذن في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أبوبكر: هلَّ أذنت لنا كما كنت تؤذن لرسول الله؟
بلال: اعذرني يا خليفة رسول الله، عندما كنت أؤذن فانتهي من الأذان أتي غرفة رسول الله، وأقول: الصلاة يا رسول الله.. الصلاة يا رسول الله، فلمن أقولها الآن؟. كيف يفعل ذلك؟ حبيبه ليس هنا، شفيعه غائب عنه.
أتاه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فاحتضنهما وبكى، يشم فيهنَّ رائحة جدهم، يسألانه أن يؤذن فلا يستطيع أن يقاوم الطلب، فالطالب غالي.
صعد على المكان الذي كان يقف عليه ليؤذن أيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر". ضُجت المدينة، صاح الناس في البيوت، أبعث رسول الله.. أبعث رسول الله؟، تذكروا الصوت الذي كان يؤذن أيامه -صلى الله عليه وسلم-. "أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله". خرج الجميع من بيته. رجال ونساء، الكل خرج في الشارع يتساءلون بينهم أبعث رسول الله؟، أكمل بلال: "أشهد أن محمدا رسول الله"، لكنه لم يستطع أن يكملها خنقته العبرة، وتسمر في مكانه، هاجت عليه مشاعره، بكى وأبكى المدينة بطرقاتها، حتى المباني كادت من فرط البكاء تبكي، لم يستطع أن يكمل ونزل.
ما عرفت المدينة يوماً أشد بكاءً من موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيوم قال فيه بلال: "أشهد أن محمدا رسول الله".
ولما احتضر بلال قالت امرأته: واحزناه، فقال: واطرباه.
غدا نلقى الأحبة.. محمدا وحزبه.
كُن عاشقاً حقاً، ردد قبل نومك اشتياقاً إلى النبي وأله وصحبه هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم، فعجل رب قبضي إليك.